للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْكَلَامِ فِي أَثْنَائِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ السَّبَبَ يَقُولُ: إِنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، لَكِنَّ مَنْ عَرَفَ الْوَاقِعَةَ عَلِمَ أَنَّهُ حَسُنَ التَّرْتِيبُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ السَّعَادَةَ الْعَاجِلَةَ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: ٥] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّعْجِيلَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا حَتَّى التَّعْجِيلَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ

وَقَالَ فِي آخِرِ الآية: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: ٢٠] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ

[القيامة: ١٤، ١٥] فَهَهُنَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ التَّعْجِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْعُذْرَ فِيهِ خَوْفَ النِّسْيَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذَا الْعُذْرِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ فَاتْرُكْ هَذَا التَّعْجِيلَ وَاعْتَمِدْ عَلَى هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ

[القيامة: ١٦، ١٧] وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ غَرَضَكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تَحْفَظَهُ وَتُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُنْكَرٌ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تُعَرِّفَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ حَاصِلَةٌ عِنْدَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: ١١، ١٢] فَالْكَافِرُ كَأَنَّهُ كَانَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ فَقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ إِنَّكَ فِي طَلَبِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، تَسْتَعِينُ بِالتَّكْرَارِ وَهَذَا اسْتِعَانَةٌ مِنْكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَاتْرُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَعِنْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَكُنْ كَالْمُضَادِّ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ تَفِرَّ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْ تَسْتَعِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِاللَّهِ، حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْمَقْصُودُ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ

[القيامة: ١٧] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] أَيْ لَا تَسْتَعِنْ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِالتَّكْرَارِ بَلِ اطْلُبْهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ

لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ

[القيامة: ١٣] فَكَانَ ذَلِكَ لِلْإِنْسَانِ حَالَ مَا يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: ١٤] فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ فَيُقَالُ لَهُ لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ عَلَيْكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِهِ وَشَرْحَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَى الْكَافِرِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ التَّهْوِيلِ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ نَهَاهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ الْجَوَابُ: لَعَلَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ إِلَى وَقْتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا: يَجُوزُ النَّسْخُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>