للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُمْ يَرْتَعِشُونَ كَالْفِرَاخِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ قَالَ: مَا أَشَدَّ مَا يَسُوءُنِي مَا أَرَى بِكُمْ وَقَامَ فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ فَرَأَى فَاطِمَةَ فِي مِحْرَابِهَا قَدِ الْتَصَقَ بَطْنُهَا بِظَهْرِهَا وَغَارَتْ عَيْنَاهَا فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: خُذْهَا يَا مُحَمَّدُ هَنَّاكَ اللَّهُ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ فَأَقْرَأَهَا السُّورَةَ»

وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَى الْكُلَّ وَأَزَاحَ عِلَلَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمُ انْقَسَمُوا إِلَى شَاكِرٍ وَإِلَى كَافِرٍ ثُمَّ ذَكَرَ وَعِيدَ الْكَافِرِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَعْدِ الشَّاكِرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ [الْإِنْسَانِ: ٥] وَهَذِهِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّاكِرِينَ وَالْأَبْرَارِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ نَظْمَ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بَيَانًا لِحَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ وَالْمُطِيعِينَ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ لَفَسَدَ نَظْمُ السُّورَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَذْكُورُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ ... وَيُطْعِمُونَ [الإنسان: ٥، ٧، ٨] وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا يُنْكَرُ دُخُولُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُطِيعِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا فَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ أَتْقِيَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دَاخِلٌ فِيهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: السُّورَةُ نَزَلَتْ عِنْدَ صُدُورِ طَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً هُوَ مَا رُوِّينَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْعَمَ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَالْأَسِيرَ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَبْرَارِ [فَإِنَّهُمْ] قَالُوا: إِطْعَامُ الطَّعَامِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ وَالْمُوَاسَاةِ مَعَهُمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ بِعَيْنِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ هُوَ الْإِحْسَانُ بِالطَّعَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَبْدَانِ/ بِالطَّعَامِ وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ إِمْكَانُ الْحَيَاةِ مَعَ فَقْدِ مَا سِوَاهُ، فَلَمَّا كَانَ الْإِحْسَانُ لَا جَرَمَ عَبَّرَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْأَكْلِ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، فَيُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ مَالَهُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْإِتْلَافِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النِّسَاءِ: ١٠] وَقَالَ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٨] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارَ بِأَنَّهُمْ يُوَاسُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَهْلَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى حُبِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ أَيْ مَعَ اشْتِهَائِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢] فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: ٩] وَالثَّانِي: قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ: وَاللَّامُ قَدْ تُقَامُ مَقَامَ عَلَى، وَكَذَلِكَ تُقَامُ عَلَى مَقَامِ اللَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَصْنَافَ مَنْ تَجِبُ مُوَاسَاتُهُمْ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمُ:

الْمِسْكِينُ وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي: الْيَتِيمُ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ كَاسِبُهُ فَيَبْقَى عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ لِصِغَرِهِ مع أنه مات كسبه وَالثَّالِثُ: الْأَسِيرُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْمِهِ الْمَمْلُوكَ [- ةُـ] رَقَبَتُهُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَصْرًا وَلَا حِيلَةً، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هاهنا هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: ١١- ١٦] وقد ذكرنا

<<  <  ج: ص:  >  >>