للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ اللَّهِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَكَانَ بَلِ الْمَنْزِلَةُ وَلَا بُعْدَ أَيْضًا فِي حَمْلِهِ عَلَى الْمَكَانِ فَلَعَلَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُشَبِّهَةً فَاعْتَقَدُوا الْعِنْدِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ فَأَبْطَلَ اللَّهُ كُلَّ ذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةً فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ سَالِمَةً لَكُمْ خَاصَّةً بِكُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكُمْ فِيهَا حَقٌّ، يَعْنِي إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وَ (النَّاسِ) لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ:

لِلْعَهْدِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنْسُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد هاهنا مَعْهُودٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ فَالْمُرَادُ بِهِ سِوَى لَا مَعْنَى الْمَكَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ وُهِبَ مِنْهُ مُلْكًا: هَذَا لَكَ مِنْ دُونِ النَّاسِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا أَمْرٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ وَهُوَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْجُودًا وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّحَدِّي وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّمَنِّي قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ يَتَحَدَّوْا بِأَنْ يَدْعُوَ/ الْفَرِيقَانِ بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ فَرِيقٍ كَانَ أَكْذَبَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولُوا لَيْتَنَا نَمُوتُ وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَخَبَرٌ قَاطِعٌ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ لِأَنَّ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهُولَةِ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ فَهَذَا إِخْبَارٌ جَازِمٌ عَنْ أَمْرٍ قَامَتِ الْأَمَارَاتُ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَداً فَهُوَ غَيْبٌ آخَرُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَهُمَا غَيَبَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَبَيَانٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا لَا يَتَمَنَّوْنَ [الْمَوْتَ] لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ وَكَثْرَةَ ذُنُوبِهِمْ دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فَهُوَ كَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنْهُ صَارَ تَصَوُّرُ الْمُكَلَّفِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الصَّوَارِفِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِرًا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ كَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَإِنْ قِيلَ: إنه تعالى قال هاهنا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فلم ذكر هاهنا (لَنْ) وَفِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ «لَا» قُلْنَا: إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ مَنْ دُونِ النَّاسِ وَادَّعَوْا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَالدَّعْوَى الْأُولَى أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِيَةِ إِذِ السَّعَادَةُ الْقُصْوَى هِيَ الْحُصُولُ فِي دَارِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْوَلَايَةِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً إِلَّا أَنَّهَا إِنَّمَا تُرَادُ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى أَعْظَمَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِلَفْظِ: «لَنْ» لِأَنَّهُ أَقْوَى الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ وَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا جَرَمَ اكْتَفَى فِي إِبْطَالِهَا بِلَفْظِ «لَا» لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى النَّفْيِ وَاللَّهُ أعلم.