للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَارِفِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْمَلَائِكَةِ نَاقِصَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَارِفُ بَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَاقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ نَوْعِ الْفَرَسِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ فَكَذَا الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَخْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ شَخْصِ الْآخَرِ بِالْمَاهِيَّةِ فَإِذَا كَانَتْ أَشْخَاصُهَا مُتَفَاوِتَةً بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُتَفَاوِتَةً فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي مَرَاتِبِ التَّجَلِّي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا شَرْحُ أَحْوَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى شَرْحِ حَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَامِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُفَوَّضٌ إِلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عُمَّارُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَسُكَّانُ بقاع السموات، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ شَرْحَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَهُمْ عَلَى شَرْحِ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ الَّتِي لَهُمْ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بْنَ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيَّ طَعَنَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: وَاحِدُ النَّازِعَاتِ نَازِعَةٌ وَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ، وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا طَعْنٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْيَاءُ ذَوَاتُ النَّزْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّأْنِيثِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّهَا هِيَ النُّجُومُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَصْفُ النُّجُومِ بِالنَّازِعَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَأَنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ فَتَنْجَذِبُ إِلَى مَا فَوْقَ الْأَرْضِ، فَإِذَا كَانَتْ مَنْزُوعَةً كَانَتْ ذَوَاتِ نَزْعٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِعَةٌ عَلَى قِيَاسِ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّازِعَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ إِلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ نُزُوعًا، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ: فَكَأَنَّهَا تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بِالنَّزْعِ وَالسَّوْقِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَتِ الْخَيْلُ إِذَا جَرَتْ، فَمَعْنَى: وَالنَّازِعاتِ أَيْ وَالْجَارِيَاتِ عَلَى السَّيْرِ الْمُقَدَّرِ وَالْحَدِّ الْمُعَيَّنِ وَقَوْلُهُ: غَرْقاً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّازِعَاتِ أَيْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ كَالْغَرْقَى فِي ذَلِكَ النَّزْعِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِهَا فِي تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَحْيَاءً نَاطِقَةً، فَمَا مَعْنَى وَصْفِهَا بِذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] فَإِنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ يَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْكَوَاكِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى غَرْقِهَا/ غَيْبُوبَتَهَا فِي أفق الغرب، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقا إِشَارَةٌ إِلَى غُرُوبِهَا أَيْ تَنْزِعُ، ثُمَّ تُغْرَقُ إِغْرَاقًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ مِنْ قَوْلِكَ:

ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَأَقُولُ يَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى انْتِقَالِهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ وَهُوَ حَرَكَتُهَا الْمَخْصُوصَةُ بِهَا فِي أَفْلَاكِهَا الْخَاصَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ حَرَكَاتِهَا الْيَوْمِيَّةَ قَسْرِيَّةٌ، وَحَرَكَتَهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ لَيْسَتْ قَسْرِيَّةً، بَلْ مُلَائِمَةً لِذَوَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالنَّزْعِ وَعَنِ الثَّانِي بِالنَّشْطِ، فَتَأَمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فِي هَذِهِ الْأَسْرَارِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>