لُغَتَانِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: النَّاخِرَةُ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ أَوَاخِرَ سَائِرِ الْآيِ نَحْوَ الْحَافِرَةِ وَالسَّاهِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرُ كَالطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَاللَّابِثِ وَاللَّبِثِ وَفَعِلٌ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّخِرَةَ غَيْرٌ وَالنَّاخِرَةَ غَيْرٌ، أَمَّا النَّخِرَةُ فَهُوَ مِنْ نَخِرَ الْعَظْمُ يَنْخَرُ فَهُوَ نَخِرٌ مِثْلُ عَفِنَ يَعْفَنُ فَهُوَ عَفِنٌ، وَذَلِكَ إِذَا بَلِيَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسْتَهُ لَتَفَتَّتَ، وَأَمَّا النَّاخِرَةُ فَهِيَ الْعِظَامُ الْفَارِغَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ فِيهَا صَوْتٌ كَالنَّخِيرِ، وَعَلَى هَذَا النَّاخِرَةُ مِنَ النَّخِيرِ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَنَخِيرِ النَّائِمِ وَالْمَخْنُوقِ لَا مِنَ النَّخَرِ الَّذِي هُوَ الْبِلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا منصوب بمحذوف تقدير إِذَا كُنَّا عِظَامًا نُرَدُّ وَنُبْعَثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الْمَبْنِيُّ بِهَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ فَقَدْ بَطَلَ مِزَاجُهُ وَفَسَدَ تَرْكِيبُهُ فَتَمْتَنِعُ إِعَادَتُهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْعَائِدُ هُوَ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ إِلَّا إِذَا دَخَلَ التَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ بِإِعَادَةِ عَيْنِ مَا عُدِمَ أَوَّلًا، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الَّذِي عُدِمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ وَلَا ذَاتٌ وَلَا خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْوُجُودِ استحال أيقال بِأَنَّ الْعَائِدَ هُوَ عَيْنُ مَا فَنِيَ أَوَّلًا وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصِيرُ تُرَابًا وَتَتَفَرَّقُ وَتَخْتَلِطُ بِأَجْزَاءِ كُلِّ الْأَرْضِ وَكُلِّ الْمِيَاهِ وَكُلِّ الْهَوَاءِ فَتَمَيُّزُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَجْزَاءَ التُّرَابِيَّةَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ قَشِفَةٌ فَتَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَارًّا رَطْبًا فِي مِزَاجِهِ عَنْهَا مُحَالٌ، هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الهيكل في الزوبان وَالتَّبَدُّلِ، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَنَا لَيْسَ فِي التَّبَدُّلِ وَالْمُتَبَدِّلُ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ حَالَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنْ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْعُورُ بِهِ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ وَإِلَّا لَاجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلَ، ثُمَّ هاهنا ثلاث احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجُسْمَانِيٍّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُخَالِفًا بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْقَابِلَةِ لِلِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ سَارِيَةً فِيهَا سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَسَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ/ فِي جِرْمِ الْوَرْدِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْهَيْكَلُ تَقَلَّصَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَبَقِيَتْ حَيَّةً مُدْرِكَةً عَاقِلَةً، إِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ أَوْ فِي السَّعَادَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُسَاوٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْمَاهِيَّةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا بِالْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مِنْ أَوَّلِ حَالِ تَكَوُّنِ شَخْصٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَبَدِّلَةِ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَنَا فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَنْفَصِلُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ. وَتَبْقَى حَيَّةً، إِمَّا فِي السَّعَادَةِ أَوْ فِي الشَّقَاوَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْبَدَنِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ فَسَادُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةً، وَهَذَا مَقَامٌ حَسَنٌ مَتِينٌ تَنْقَطِعُ بِهِ جَمِيعُ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِصَيْرُورَةِ الْعِظَامِ نَخِرَةً بَالِيَةً مُتَفَرِّقَةً تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ الْبَتَّةَ، سَلَّمْنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُسَامَحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذَا الْهَيْكَلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِعَادَةَ مُمْتَنِعَةٌ؟
[أَوَّلًا] : الْمَعْدُومُ لَا يُعَادُ: قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ حَالَ عَدَمِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَكُمْ صِحَّةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute