أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي كَلَّا وُجُوهًا أَحَدُهَا:
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ عَنْ هَذَا الْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ حَقًّا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَالًا وَوَلَدًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: ٧٨] وقال: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: ٥٠] وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ تَرَكَ اللَّهُ ذِكْرَهُ هَاهُنَا وَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ: مِنْ أَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُسْنَى بَلْ هُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَتَكُونُ كَلَّا هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ قَالُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْحِجَابَ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَمَا يَكُونُ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ حُصُولُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْحِجَابُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ أَيْ مَمْنُوعُونَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرَائِضِ: الْإِخْوَةُ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَلَى الثُّلُثِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ: لِمَنْ يَمْنَعُ عَنِ الدُّخُولِ هُوَ حَاجِبٌ، لِأَنَّهُ «١» يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
لَمَحْجُوبُونَ أَيْ غَيْرُ مُقَرَّبِينَ، وَالْحِجَابُ الرَّدُّ وَهُوَ ضِدُّ الْقَبُولِ، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ غَيْرُ مَقْبُولِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي: الْحِجَابُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: حُجِبَ فُلَانٌ عَنِ الْأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ/ مِنَ الْبُعْدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحِجَابُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَمْنُوعًا عَنْ وُجْدَانِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ والجواب: لا شك أن من منع مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَنْ مُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَمِيرِ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا يُقَالُ الْأُمُّ حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ بِسَبَبِ الْإِخْوَةِ، وَإِذَا وَجَدْنَا هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَفْهُومٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْعُ. فَفِي الصُّورَةِ الأولى حصل المنع من الرؤية، وفي الثانية حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى قُرْبِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَمْنُوعُونَ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِمَّا الْعِلْمُ، وَإِمَّا الرُّؤْيَةُ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْكُفَّارِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ. أَمَّا صَرْفُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَكَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ، وَالْمُؤْمِنِ لَا يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَرَوْهُ، وَعَنِ الشافعي لما حجب قوما
(١) في الأصل: لا أنه، ولعل ما أثبته هو الصواب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute