أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ تَصْقَعُ الْأَعْمَالُ وَالْمُحَاسَبَةُ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَفِي سَبَبِ هَذَا الضَّحِكِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَضْحَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَاعُوا بَاقِيًا بِفَانٍ وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ فَازُوا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَنَالُوا بِالتَّعَبِ الْيَسِيرِ رَاحَةَ الْأَبَدِ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ فَأُجْلِسُوا عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَكَيْفَ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا وَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الثَّانِي: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِيهَا اخْرُجُوا وَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَاكَ هُوَ سَبَبُ الضَّحِكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ يَضْحَكُونَ أَيْ يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ثُوِّبَ بِمَعْنَى أُثِيبَ أَيِ اللَّهُ الْمُثِيبُ، قَالَ أَوْسٌ:
سَأَجْزِيكِ أَوْ يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحْمَدِي
قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهُوَ فُعِّلَ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ مَا يَثُوبُ أَيْ يَرْجِعُ إِلَى فَاعِلِهِ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَالثَّوَابُ يُسْتَعْمَلُ في المكافأة بالشر، ونشد أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَسَنٍ رَسُولًا ... فَمَا لَكَ لَا تَجِيءُ إِلَى الثَّوَابِ
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: ٤٩] وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ جَازَيْنَا الْكُفَّارَ عَلَى عَمَلِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ ضَحِكُهُمْ بِكُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِطَرِيقَتِكُمْ، كَمَا جَازَيْنَاكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ؟ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ زَائِدًا فِي سُرُورِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَةً فِي تَعْظِيمِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافَ بِأَعْدَائِهِمْ، والمقصود منها أحوال القيامة. والله أعلم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute