النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ السِّحْرِ: التَّخَيُّلَاتُ وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ، وَهَذَا الْأَخْذُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّ أَغْلَاطَ الْبَصَرِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّطِّ رَأَى السَّفِينَةَ وَاقِفَةً وَالشَّطَّ مُتَحَرِّكًا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاكِنَ يُرَى مُتَحَرِّكًا وَالْمُتَحَرِّكَ يُرَى سَاكِنًا، وَالْقَطْرَةَ النَّازِلَةَ تُرَى خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَالذُّبَالَةَ الَّتِي تُدَارُ بِسُرْعَةٍ تُرَى دَائِرَةً، وَالْعِنَبَةَ تُرَى فِي الْمَاءِ كَبِيرَةً كَالْإِجَّاصَةِ، وَالشَّخْصَ الصَّغِيرَ يُرَى فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا، فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ عَنْهُ صَغُرَتْ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْعَظِيمِ مِنَ الْبَعِيدِ صَغِيرًا فَظَاهِرٌ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ هَدَتِ الْعُقُولَ إِلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قَدْ تُبْصِرُ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ إِنَّمَا تَقِفُ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ وُقُوفًا تَامًّا إِذَا أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَ فِي زَمَانٍ لَهُ مِقْدَارٌ مَا، فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَتِ الْمَحْسُوسَ فِي زَمَانٍ صَغِيرٍ جِدًّا ثُمَّ أَدْرَكَتْ بَعْدَهُ مَحْسُوسًا آخَرَ وَهَكَذَا فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْمَحْسُوسَاتِ عَنِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ فَإِنَّ الرَّحَى إِذَا أَخْرَجْتَ مِنْ مَرْكَزِهَا إِلَى مُحِيطِهَا خُطُوطًا كَثِيرَةً بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ اسْتَدَارَتْ، فَإِنَّ الْحِسَّ يَرَى لَوْنًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كُلِّ تِلْكَ الْأَلْوَانِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ، فَرُبَّمَا حَضَرَ عِنْدَ الْحِسِّ شَيْءٌ آخَرُ وَلَا يَشْعُرُ الْحِسُّ بِهِ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى السُّلْطَانِ قَدْ يَلْقَاهُ إِنْسَانٌ آخَرُ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ، فَلَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَفْهَمُ كَلَامَهُ، لِمَا أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَكَذَا النَّاظِرُ فِي الْمِرْآةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا قَصَدَ أَنْ يَرَى قَذَاةً فِي عَيْنِهِ فَيَرَاهَا وَلَا يَرَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، إِنْ كَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ أَوْ بِجَبْهَتِهِ أَوْ بِسَائِرِ أَعْضَائِهِ الَّتِي تُقَابِلُ الْمِرْآةَ، وَرُبَّمَا قَصَدَ أَنْ يَرَى سَطْحَ الْمِرْآةِ هَلْ هُوَ مُسْتَوٍ أَمْ لَا فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا فِي الْمِرْآةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ سَهُلَ عِنْدَ ذَلِكَ تَصَوُّرُ كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَعْبِذَ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يَشْغَلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا اسْتَغْرَقَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَالتَّحْدِيقُ نَحْوَهُ عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، فَيَبْقَى ذَلِكَ الْعَمَلُ خَفِيًّا لِتَفَاوُتِ الشَّيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: اشْتِغَالُهُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي: سُرْعَةُ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْعَمَلِ الثَّانِي وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُشَعْبِذَ يَأْخُذُ بِالْعُيُونِ لِأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ يَأْخُذُ الْعُيُونَ إِلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يَحْتَالُ فِيهَا وَكُلَّمَا كَانَ أَخْذُهُ لِلْعُيُونِ وَالْخَوَاطِرِ وَجَذْبُهُ لَهَا إِلَى سِوَى مَقْصُودِهِ أَقْوَى كَانَ أَحَذَقَ فِي عَمَلِهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُفِيدُ حِسَّ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ أَحْسَنَ، مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا، فَإِنَّ الْبَصَرَ يُفِيدُ الْبَصَرَ كَلَالًا وَاخْتِلَالًا، وَكَذَا الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ/ وَكَذَلِكَ الْأَلْوَانُ الْمُشْرِقَةُ الْقَوِيَّةُ تُفِيدُ الْبَصَرَ كَلَالًا وَاخْتِلَالًا، وَالْأَلْوَانُ الْمُظْلِمَةُ قَلَّمَا تَقِفُ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ
عَلَى أَحْوَالِهَا، فَهَذَا مَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ أُخْرَى، مِثْلَ: فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ الْبُوقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ، وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حتى يفرق فيها ضَحِكِ السُّرُورِ وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ، وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ أَنْ يجر ثقيلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute