مَقْدُورٌ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِكَوْنِهِ مُمْكِنًا وَالْإِمْكَانُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِذَنْ كُلُّ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقْدُورَاتِ بِسَبَبٍ آخَرَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ مُزِيلًا لِتَعَلُّقِ قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحاث سَبَبًا لِعَجْزِ اللَّهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ كُلُّ مَا قَالَهُ الصَّابِئَةُ، قَالُوا: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَدَّعِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ هَذِهِ الْخَوَارِقِ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ عِنْدَ سِحْرِ السَّحَرَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى وُقُوعِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْآثَارِ بِسَبَبِهِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرَةً وَآحَادًا، أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ» وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ وَجَعَلَتْ ذَلِكَ السِّحْرَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَ ذَلِكَ زَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَأُنْزِلَ الْمُعَوِّذَتَانِ بِسَبَبِهِ،
وَثَانِيهَا: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهَا: إِنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُكِ؟ فَقَالَتْ: صِرْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقَالَا لِي يَا أَمَةَ اللَّهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَأَبَيْتُ، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ، فَذَهَبْتُ لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْتُ لَا أَفْعَلُ وَجِئْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا لِي: مَا رَأَيْتِ لَمَّا فَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ/ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَا لِي: أَنْتِ عَلَى رَأْسِ أَمْرٍ فَاتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَفْعَلِي، فَأَبَيْتُ فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَافْعَلِي، فذهب فَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِي فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فَجِئْتُهُمَا فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: إِيمَانُكِ قَدْ خَرَجَ عَنْكِ وَقَدْ أَحْسَنْتِ السِّحْرَ، فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟
قَالَا: مَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِيهِ فِي وَهْمِكِ، إِلَّا كَانَ فَصَوَّرْتُ فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِحَبٍّ، فَقُلْتُ:
انْزَرِعْ فَانْزَرَعَ فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبُلًا فَقُلْتُ: انْطَحِنْ فَانْطَحَنَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَقُلْتُ: انْخَبِزْ فَانْخَبَزَ وَأَنَا لَا أُرِيدُ شَيْئًا أُصَوِّرُهُ فِي نَفْسِي إِلَّا حَصَلَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ لَكِ تَوْبَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الْحِكَايَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى إِنْكَارِهِ بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: ٦٩] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفَرْقَانِ: ٨] وَلَوْ صَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْحُورًا لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ مِنَ السِّحْرِ فَكَيْفَ يَتَمَيَّزُ الْمُعْجِزُ عَنِ السِّحْرِ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الدَّلَائِلُ يَقِينِيَّةٌ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ فَلَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٌ: اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ السَّاحِرَ هَلْ يُكَفَّرُ أَمْ لَا؟
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُمَا بِقَوْلٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْخَالِقَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ السحر.