للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّاحِرِ: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ: السَّاحِرُ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَهُوَ فِسْقٌ/ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ كَانَ الْحَقُّ هُوَ التَّفْصِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ سَاحِرَ الْيَهُودِ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ وَامْرَأَةٌ مَنْ يَهُودِ خَيْبَرَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَلَمْ يَقْتُلْهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ كَذَلِكَ

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» .

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَخْبَارٍ، أَحَدُهَا: مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا وَأَخَذُوهَا فَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا فَبَلَغَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَخْبَرَهُ أَمْرَهَا فَكَأَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَتَلَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَثَانِيهَا: مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ وَرَدَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَثَالِثُهَا:

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَّافِينَ كُهَّانُ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا يُؤْمِنُ له بما يقول فقد برىء مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ السَّحَرَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا كَانُوا مِنَ الْكَفَرَةِ فَإِنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ أَعْنِي الْإِتْيَانَ بِضُرُوبِ الشَّعْبَذَةِ وَالْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى ضُرُوبِ الْخُيَلَاءِ، وَالْمَبْنِيَّةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَنْ يُوهِمُ ضُرُوبًا مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّقْرِيعِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْ بِهِ السَّوْدَاءُ مُحْكِمَ الِاعْتِقَادِ فِيهِ وَيَتَمَشَّى بِالتَّضْرِيبِ وَالنَّمِيمَةِ وَيَحْتَالُ فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الْوَصْلَةِ، وَيُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ بِكِتَابَةٍ يَكْتُبُهَا مِنَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَفْنِ الْأَشْيَاءِ الْوَسِخَةِ فِي دُورِ النَّاسِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِيهَامِ أَنَّ الْجِنَّ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ يَدُسُّ الْأَدْوِيَةَ الْمُبَلِّدَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الْكُفْرِ وَلَا يُوجِبُ الْقَتْلَ أَلْبَتَّةَ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ فِي السِّحْرِ وَاللَّهُ الْكَافِي وَالْوَاقِي وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَفَرُوا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَتَعْلِيمُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ أَيْضًا كُفْرٌ، وَلِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَلَوْ كَانَ تَعْلِيمُ السِّحْرِ كُفْرًا لَزِمَ تَكْفِيرُ الْمَلَكَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْرِهِمْ مَعْصُومُونَ وَأَيْضًا فَلِأَنَّكُمْ قَدْ دَلَلْتُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا فَهُوَ كُفْرٌ. قُلْنَا: اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَنَحْنُ نَحْمِلُ هَذَا السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسَمَّاةِ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَهَذَا السِّحْرُ كُفْرٌ، وَالشَّيَاطِينُ إِنَّمَا كَفَرُوا لِإِتْيَانِهِمْ بِهَذَا السِّحْرِ لَا بِسَائِرِ الْأَقْسَامِ.

وَأَمَّا الْمَلَكَانِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يُعَلِّمَانِ سَائِرَ الْأَنْوَاعِ عَلَى/ مَا قَالَ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا عَلَّمَا هَذَا النَّوْعَ لَكِنَّ تَعْلِيمَ هَذَا النَّوْعِ إِنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيته وَكَوْنُهُ صَوَابًا، فَأَمَّا أَنْ يُعَلِّمَهُ لِيُحْتَرَزَ عَنْهُ فَهَذَا التَّعْلِيمُ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَتَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَرِزًا عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً