للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَفْسِهِ، بَلْ مِنَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: ٩] ، وَثَالِثُهَا:

أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْجَارِ إِذَا أَسْقَطَتِ الثَّمَرَةَ مِنْ مَوْضِعِهَا لَمْ تَعُدْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، إِلَّا التِّينَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَذْرَ وَرُبَّمَا سَقَطَ ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى وَرَابِعُهَا: أَنَّ التِّينَ فِي النَّوْمِ رَجُلٌ خَيِّرٌ غَنِيٌّ فَمَنْ نَالَهَا فِي الْمَنَامِ نَالَ مَالًا وَسَعَةً، وَمَنْ أَكَلَهَا رَزَقَهُ اللَّهُ أَوْلَادًا وَخَامِسُهَا:

رُوِيَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَصَى وَفَارَقَتْهُ ثِيَابُهُ تَسَتَّرَ بِوَرَقِ التِّينِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَكَانَ مُتَّزِرًا بِوَرَقِ التِّينِ اسْتَوْحَشَ فَطَافَ الظِّبَاءُ حَوْلَهُ فَاسْتَأْنَسَ بِهَا فَأَطْعَمَهَا بَعْضَ وَرَقِ التِّينِ، فَرَزَقَهَا اللَّهُ الْجَمَالَ صُورَةً وَالْمَلَاحَةَ مَعْنًى وَغَيَّرَ دَمَهَا مِسْكًا، فَلَمَّا تَفَرَّقَتِ الظِّبَاءُ إِلَى مَسَاكِنِهَا رَأَى غَيْرَهَا عَلَيْهَا مِنَ الْجَمَالِ مَا أَعْجَبَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ مِنَ الْغَدِ جَاءَتِ الظِّبَاءُ عَلَى أَثَرِ الْأُولَى إِلَى آدَمَ فَأَطْعَمَهَا مِنَ الْوَرَقِ فَغَيَّرَ اللَّهُ حَالَهَا إِلَى الْجَمَالِ دُونَ الْمِسْكِ،

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى جَاءَتْ لِآدَمَ لَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى جَاءَتْ لِلطَّمَعِ سِرًّا وَإِلَى آدَمَ ظَاهِرَةً، فَلَا جَرَمَ غَيَّرَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَشَجَرَتُهُ هِيَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ لَا تَقْتَصِرُ مَنْفَعَتُهَا غِذَاءَ بَدَنِكَ، بَلْ هِيَ غِذَاءُ السِّرَاجِ أَيْضًا وَتَوَلُّدُهَا فِي الْجِبَالِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الدُّهْنِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ وَرَقَ الزَّيْتُونِ فِي الْمَنَامِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَقَالَ مَرِيضٌ لِابْنِ سِيرِينَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِي:

كُلِ اللَّامَيْنِ تُشْفَ، فَقَالَ: كُلِ الزَّيْتُونَ فَإِنَّهُ لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: التِّينُ وَالزَّيْتُونُ اسْمٌ لِهَذَيْنِ الْمَأْكُولَيْنِ وَفِيهِمَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ الْجَلِيلَةُ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْجَزْمُ بِأَنَّ اللَّهَ تعالى أقسم بهما لما فيهما هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا جَبَلَانِ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، يُقَالُ لَهُمَا: بِالسُّرْيَانِيَّةِ طُورَ تِينَا، وَطُورَ زِيتَا، لِأَنَّهُمَا مَنْبَتَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِمَنَابِتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْجَبَلُ الْمُخْتَصُّ بِالتِّينِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالزَّيْتُونُ الشَّأْمُ مَبْعَثُ أَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالطُّورُ مَبْعَثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينُ مَبْعَثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْقَسَمِ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِعْلَاءَ دَرَجَاتِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مَسْجِدَانِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: التِّينُ مَسْجِدُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التِّينُ مَسْجِدُ نُوحٍ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْجُودِيِّ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَسْجِدِ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا التِّينُ وَالزَّيْتُونُ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَثَالِثُهَا: / الْمُرَادُ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ بَلَدَانِ، فَقَالَ كَعْبٌ: التِّينُ دِمَشْقُ وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: التِّينُ الْكُوفَةُ، وَالزَّيْتُونُ الشَّامُ، وَعَنِ الرَّبِيعِ هُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ هَمْدَانَ وَحُلْوَانَ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ بَلْدَةً مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ بِأَسْرِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنْ دِمَشْقَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ فِيهِمَا نِعَمُ الدُّنْيَا، وَالطُّورَ وَمَكَّةَ فِيهِمَا نِعَمُ الدِّينِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَطُورِ سِينِينَ فَالْمُرَادُ مِنْ الطُّورِ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِينِينَ وَالْأَوْلَى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ سِينِينَ وَسِينَا اسْمَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْجَبَلُ أُضِيفَا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: الطُّورُ الْجَبَلُ وَسِينِينَ الْحَسَنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>