للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي زَمَانِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمَا إِذَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا بِصُورَةِ الْبَشَرِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَسُولٍ فِي وَقْتِهِمَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً

لَهُ، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا رَسُولَيْنِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْعَثُ الرَّسُولَ إِلَى الْإِنْسِ مَلَكًا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: «هَارُوتُ وَمَارُوتُ» عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَلَكَيْنِ، عَلَمَانِ لَهُمَا وَهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الصَّرْفِ، وَلَوْ كَانَا مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ وَهُوَ الْكَسْرُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَانْصَرَفَا، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ عَلَى: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ حَالَهُمَا فَقَالَ: وَهَذَانِ الْمَلَكَانِ لَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ إِلَّا بَعْدَ التَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: / إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ والمراد هاهنا بِالْفِتْنَةِ الْمِحْنَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، كَقَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا عُرِضَ عَلَى النَّارِ لِيَتَمَيَّزَ الْخَالِصُ عَنِ الْمَشُوبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْوُجُوهَ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ بَعْثَةُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا السِّحْرَ وَلَا يَصِفَانِهِ لِأَحَدٍ وَلَا يَكْشِفَانِ لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِيَالِ حَتَّى يَبْذُلَا لَهُ النَّصِيحَةَ، فَيَقُولَا لَهُ: «إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ» أَيْ هَذَا الَّذِي نَصِفُهُ لَكَ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَبَيْنَ المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي، فَإِيَّاكَ بَعْدَ وُقُوفِكَ عَلَيْهِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ أَوْ تَتَوَصَّلَ به إلى شيء من الأغراض الْعَاجِلَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّفْرِيقِ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ مُؤَثِّرٌ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ فَيَصِيرُ كَافِرًا، وَإِذَا صَارَ كَافِرًا بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فَيَحْصُلُ تَفَرُّقٌ بَيْنَهُمَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّمْوِيهِ وَالْحِيَلِ وَالتَّضْرِيبِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، لَكِنْ ذَكَرَ هَذِهِ الصُّورَةَ تَنْبِيهًا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ، فَإِنَّ اسْتِكَانَةَ الْمَرْءِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَرُكُونَهُ إِلَيْهَا مَعْرُوفٌ زَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَوَدَّةٍ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِذَا أَمْكَنَ بِهِ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى شِدَّتِهِ فَغَيْرُهُ بِهِ أَوْلَى.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الضَّرَرَ، وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ عَيْبَهُمْ وَذَمَّهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا جَازَ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْلِيَةُ، يَعْنِي السِّحْرُ إِذَا سَحَرَ إِنْسَانًا فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَرَرِ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَذَانُ أَذَانًا لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إِذْنًا لِأَنَّ بِالْحَاسَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ يُدْرَكُ الْإِذْنُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ [التَّوْبَةِ: ٣] أَيْ إِعْلَامٌ، وَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩] مَعْنَاهُ: فاعلموا وقوله:

آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الأنبياء: ١٠٩] يعني أعلمتكم، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ عِنْدَ فِعْلِ السِّحْرِ إنما يحصل