للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُبُوَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجِدِّ فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَّابًا مُتَصَنِّعًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ الْجِدُّ الْمُتَنَاهِي، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَوْ مَعْتُوهًا وَالثَّانِي: مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا الثَّانِي: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَخْلَاقِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ كَانَ بَالِغًا إِلَى حَدِّ كَمَالِ الْإِعْجَازِ، وَالْجَاحِظُ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَرَهُ فِي كِتَابِ «الْمُنْقِذِ» ، فَإِذًا لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سُمِّيَ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ الثَّالِثُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَكَانَتْ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ فَلِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ، ولذلك سماه الله تعالى سراجا منيرا. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةِ هُوَ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَسُولًا حَالٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ قَالُوا: وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ لِلتَّعْرِيفِ أَيْ هُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَعِيسَى، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِلتَّفْخِيمِ أَيْ هُوَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا أَوِ الْبَيِّنَةُ كُلُّ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّفْخِيمِ وَكَذَا التَّنْكِيرُ وقد جمعهما الله هاهنا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَدَأَ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّنْكِيرِ فَقَالَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ هُوَ رَسُولٌ، وَأَيُّ رَسُولٍ، وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: ١٥] ثم قال: فَعَّالٌ [البروج: ١٦] فَنَكَّرَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةُ مُطْلَقُ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أَيْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ رُسُلٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الله تتلوا عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: ١٥٣] وَكَقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: ٥٢] .

الْقَوْلُ الثالث: وهو قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣] ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ وَحْيٌ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الصُّحُفَ جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ ظَرْفٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَفِي: الْمُطَهَّرَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الْبَاطِلِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: ٤٢] وَقَوْلِهِ: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عَبَسَ: ١٤] ، وَثَانِيهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الذِّكْرِ الْقَبِيحِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُذْكَرُ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: مُطَهَّرَةً أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٧٨، ٧٩] .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطَهَّرَةَ وَإِنْ جَرَتْ نَعْتًا لِلصُّحُفِ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَا فِي الصُّحُفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلُهُ:

كُتُبٌ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمُرَادُ مِنَ الْكُتُبِ الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الصُّحُفِ وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» :

الْكُتُبُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] وَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَسِيفِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أَيْ أَحْكَامٌ قَيِّمَةٌ أَمَّا الْقَيِّمَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مُسْتَقِيمَةٌ لَا عِوَجَ فِيهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْ قَامَ يَقُومُ كَالسَّيِّدِ وَالْمَيِّتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا إِذَا ظَهَرَ وَاسْتَقَامَ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْقَيِّمَةُ بِمَعْنَى الْقَائِمَةِ أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>