السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذَكَرَ: كَفَرُوا بِلَفْظِ الْفِعْلِ: وَالْمُشْرِكِينَ بَاسْمِ الْفَاعِلِ؟ وَالْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمُقِرِّينَ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَيُنْكِرُونَ/ الْقِيَامَةَ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْعَذَابِ؟ وَالْجَوَابُ: يُقَالُ: بِئْرٌ جَهَنَّامٌ إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْقَعْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ تَكَبَّرُوا طَلَبًا لِلرِّفْعَةِ فَصَارُوا إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي حُسْنِ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ إِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَإِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَقْبَحُ الْقِسْمَيْنِ وَالْإِحْسَانُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ إِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَإِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْقِسْمَيْنِ، فَكَانَ إِحْسَانُ اللَّهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَإِسَاءَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَبِالشَّتْمِ تَعْزِيرٌ وَبِالْقَذْفِ حَدٌّ وَبِالسَّرِقَةِ قَطْعٌ، وَبِالزِّنَا رَجْمٌ، وَبِالْقَتْلِ قِصَاصٌ، بَلْ شَتْمُ الْمُمَاثِلِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، وَالنَّظَرُ الشَّزْرُ إِلَى الرَّسُولِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ، وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا نَارٌ فِي مَوْضِعٍ عَمِيقٍ مُظْلِمٍ هَائِلٍ لَا مَفَرَّ عَنْهُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ رَجَاءُ الْفِرَارِ، فَهَلْ هُنَاكَ رَجَاءُ الْإِخْرَاجِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَذُمُّونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السبب في أنه لم يقل هاهنا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الثواب: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [البينة: ٨] ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَزْيَدُ مِنْ غَضَبِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ تَتَدَاخَلُ، أَمَّا الثَّوَابُ فَأَقْسَامُهُ لَا تَتَدَاخَلُ وَثَالِثُهَا:
رُوِيَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا دَاوُدُ حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، قَالَ: وَكَيْفَ أَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: اذْكُرْ لَهُمْ سَعَةَ رَحْمَتِي،
فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ الْقِرَاءَةُ فِي لَفْظِ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ نَافِعٌ الْبَرِيئَةِ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَالْقِيَاسُ فِيهَا الْهَمْزُ إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَمْزَهُ، كَالنَّبِيِّ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْخَابِيَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ كَالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا أَنَّ مَنْ هَمَزَ النَّبِيَّ كَانَ كَذَلِكَ وَتَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ أَجْوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْهَمْزُ هُوَ الْأَصْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ الْمَتْرُوكِ وَهَمْزُ مَنْ هَمَزَ الْبَرِّيَّةَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْبَرَا الَّذِي هُوَ التُّرَابُ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ يُفِيدُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ أَيْ هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَّ الْبَرِيَّةِ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا، شَرٌّ مِنَ السُّرَّاقِ، لِأَنَّهُمْ سَرَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ، وَشَرٌّ مِنَ الْجُهَّالِ الْأَجْلَافِ، لِأَنَّ الْكِبْرَ مَعَ الْعِلْمِ يَكُونُ كُفْرَ عِنَادٍ فَيَكُونُ أَقْبَحَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute