للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُقُوعَ النَّسْخِ أَصْلًا/ بَنَوْا مَذْهَبَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ وَقَالُوا: قَدْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ بَشَّرَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِهِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى شَرْعِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ امْتَنَعَ الْجَزْمُ بِوُقُوعِ النَّسْخِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْإِلْزَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَاحْتَجَّ منكروا النَّسْخِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ شَرْعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى دَوَامِهَا أَوْ لَا عَلَى دَوَامِهَا أَوْ مَا كَانَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا عَلَى اللَّادَوَامِ، فَإِنْ بَيَّنَ فِيهَا ثُبُوتَهَا عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا دَامَتْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ كَذِبًا وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَأَيْضًا، فَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعَنَا لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَقُولَ الشَّرْعُ: هَذِهِ الشَّرِيعَةُ دَائِمَةٌ وَلَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً قَطُّ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّا إِذَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ حَاصِلًا فِي شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَدُومَا زَالَ الْوُثُوقُ عَنْهُ فِي كُلِّ الصُّوَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ أَوْ مَا قَرَنَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا فِي الْجُمْلَةِ؟ قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا:

أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ جَمْعٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَبَثٌ، وَثَانِيهَا: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شَرْعَهُمَا سَيَصِيرُ مَنْسُوخًا، فَإِذَا نَقَلَ شَرْعَهُ وَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ أَصْلَ الشَّرْعِ بِدُونِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ شَرْعَنَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ فِيهَا الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ اشْتِهَارُهُ وَبُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا فَلَعَلَّ الْقُرْآنَ عُورِضَ، وَلَمْ تُنْقَلْ مُعَارَضَتُهُ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرَ هَذَا الشَّرْعَ عَنْ هَذَا الْوَضْعِ وَلَمْ يُنْقَلْ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ أَنْ تُنْقَلَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ فَنَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا سَيَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَمَعْلُومًا لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ مُنَازَعَةُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِيهِ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُطْبِقِينَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ شَرْعَيْهِمَا يَصِيرَانِ مَنْسُوخَيْنِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ دَائِمٍ. فَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِأَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ انْتِهَاءً لِلْغَايَةِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ كَوْنَهُ دَائِمًا أَوْ كَوْنَهُ غَيْرَ دَائِمٍ فَنَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ/ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، فَوُرُودُ أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ مُحَالٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّا بَعْدَ أَنْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَمَسَّكْنَا فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والاستدلال به أيضاً ضعيف، لأن «ما» هاهنا تفيد