للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا تُحْصَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لسائر نعمه فليعبده لِهَذِهِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ، لَا بِمَا قَبْلَهَا وَلَا بِمَا بَعْدَهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُونَ غَيًّا وَجَهْلًا وَانْغِمَاسًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُؤَلِّفُ شَمْلَهُمْ وَيَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْهُمْ، وَيُنَظِّمُ أَسْبَابَ مَعَايِشِهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّعَجُّبِ مِنْ عَظِيمِ حِلْمِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي اللُّغَةِ قَوْلُكَ لِزَيْدٍ وَمَا صَنَعْنَا بِهِ وَلِزَيْدٍ وَكَرَامَتِنَا إِيَّاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْإِيلَافِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيلَافَ هُوَ الْإِلْفُ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ وَأَلَفْتُهُ إِلْفًا وَإِلَافًا وَإِيلَافًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ لَزِمْتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِإِلْفِ قُرَيْشٍ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ فَتَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (لِإِلْفِ قُرَيْشٍ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (لِإِلَافِ قُرَيْشٍ) ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ (لِيلَافِ قُرَيْشٍ) وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِكَ: لَزِمْتُ مَوْضِعَ كَذَا وَأَلْزَمَنِيهِ اللَّهُ، كَذَا تَقُولُ: أَلِفْتُ كَذَا، وَأَلَفَنِيهِ اللَّهُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِثْبَاتَ الْأُلْفَةِ بِالتَّدْبِيرِ الَّذِي فِيهِ لُطْفٌ أَلِفَ بِنَفْسِهِ إِلْفًا وَآلَفَهُ غَيْرُهُ إِيلَافًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْإِلْفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي قُرَيْشٍ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٦٣] وَقَالَ: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣] وَقَدْ تَكُونُ الْمَسَرَّةُ سَبَبًا لِلْمُؤَانَسَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا وَقَعَتْ عِنْدَ انْهِزَامِ أصحاب الفيل لقريش، فيكون المصدر هاهنا مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا مُلَازِمِينَ لِرِحْلَتَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيلَافُ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالتَّجْهِيزُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لِتَجْهِيزِ قُرَيْشٍ رِحْلَتَيْهَا حَتَّى تَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (لِيلَافِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ فَحَذَفَ هَمْزَةَ الْإِفْعَالِ حذفا كليا وهو كمذهبه في يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: ٥] وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ هُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِيلَافَ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ الْمُقَيَّدَ بَدَلًا لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا لِعَظِيمِ الْمِنَّةِ فِيهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ عَامًّا يَجْمَعُ كُلَّ مُؤَانَسَةٍ وَمُوَافَقَةٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَقَامُهُمْ/ وَسِيَرُهُمْ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ خَصَّ إِيلَافِ الرِّحْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِسَبَبِ أَنَّهُ قِوَامُ مَعَاشِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَفَائِدَةُ تَرْكِ وَاوِ الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّ النِّعْمَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلِفْتُ كَذَا أَيْ لَزِمْتُهُ، وَالْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ إِلْزَامٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالْأَمْرِ، وَإِلْزَامٌ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمُؤَانَسَةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَحَبَّ الْمَرْءُ شَيْئًا لزمه، ومنه: أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: ٢٦] كَمَا أَنَّ الْإِلْجَاءَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْهَرَبِ مِنَ السَّبُعِ وَالثَّانِي: لِطَلَبِ النَّفْعِ الْعَظِيمِ، كَمَنْ يَجِدُ مَالًا عَظِيمًا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَخْذِهِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا حِسًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُلْجَأِ إِلَى الْأَخْذِ، وَكَذَا الدَّوَاعِي الَّتِي تَكُونُ دُونَ الْإِلْجَاءِ، مَرَّةً تَكُونُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَأُخْرَى لِجَلْبِ النَّفْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: إِيلافِهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ،

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا بَنِي النضر بن كنانة لا نفقوا أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا»

وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْقِرْشِ وَهُوَ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَحْرِ تَعْبَثُ بِالسُّفُنِ، وَلَا تَنْطَلِقُ إِلَّا بِالنَّارِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: بِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ؟ قال:

بدابة في البحر تأكل ولا تأكل، تَعْلُو وَلَا تُعْلَى، وَأَنْشَدَ:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تسكن البحر ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

<<  <  ج: ص:  >  >>