خَيْراً كَثِيراً
[الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] وَثَانِيهَا: أَنَّا إِمَّا أَنْ نَحْمِلَ الْكَوْثَرَ عَلَى نِعَمِ الْآخِرَةِ، أَوْ عَلَى نِعَمِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَالَ: أَعْطَيْنَا، وَنِعَمُ الْجَنَّةِ سَيُعْطِيهَا لَا أَنَّهُ أَعْطَاهَا، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَوْثَرِ عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَشْرَفُ الْأُمُورِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْعِلْمِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْعِلْمِ وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَ عَقِيبَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِبَادَةِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢] : أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَقَالَ فِي طه [١٤] : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فَقَدَّمَ فِي السُّورَتَيْنِ الْمَعْرِفَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ فَاءَ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الْكَوْثَرِ كَالْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِبَادَةِ لَيْسَ إِلَّا الْعِلْمَ، الْقَوْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ، قَالُوا: الِانْتِفَاعُ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ عَامٌّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْبَهِيمَةُ وَالْعَاقِلُ، فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْعِلْمِ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ، فَكَانَ نَفْعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ أَعَمَّ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَوْثَرِ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ كَانَ لِلْأَجَانِبِ كَالْوَالِدِ يَحُلُّ عُقَدَهُمْ وَيَكْفِي مُهِمَّهَمُ، وَبَلَغَ حُسْنُ خُلُقِهِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَسَرُوا سِنَّهُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الْكَوْثَرُ هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي هُوَ الشَّفَاعَةُ، فَقَالَ فِي الدُّنْيَا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣]
وَقَالَ فِي الْآخِرَةِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي خَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْثَرِ هُوَ هَذِهِ السُّورَةُ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعَ/ قِصَرِهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْكَوْثَرَ عَلَى كَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ، أَوْ عَلَى كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِ النَّسْلِ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ مُطَابِقًا لَهُ، فَكَانَ مُعْجِزًا وَثَانِيهَا:
أَنَّهُ قَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى زَوَالِ الْفَقْرِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى النَّحْرِ، وَقَدْ وَقَعَ فَيَكُونُ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرَ فَكَانَ مُعْجِزًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهَا مَعَ صِغَرِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ فِي كَمَالِ الْقُرْآنِ، إِنَّمَا تَقَرَّرَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهَا مَعَ صِغَرِهَا فَبِأَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ كُلِّ الْقُرْآنِ أَوْلَى، وَلَمَّا ظَهَرَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ تَقَرَّرَتِ النُّبُوَّةُ وَإِذَا تَقَرَّرَتِ النُّبُوَّةُ فَقَدْ تَقَرَّرَ التَّوْحِيدُ وَمَعْرِفَةُ الصَّانِعِ، وَتَقَرَّرَ الدَّيْنُ وَالْإِسْلَامُ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَقَرَّرَ جَمِيعُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذِهِ السُّورَةُ جَارِيَةٌ مُجْرَى النُّكْتَةِ الْمُخْتَصَرَةِ الْقَوِيَّةِ الْوَافِيَةِ بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ فَكَانَتْ صَغِيرَةً فِي الصُّورَةِ كَبِيرَةً فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ لَهَا خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا وَهِيَ أَنَّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فَهِيَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِهَا مُعْجِزٌ وَبِمَجْمُوعِهَا مُعْجِزٌ وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَوْثَرِ هُوَ هَذِهِ السُّورَةُ الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْثَرِ جَمِيعُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْكَوْثَرِ يَتَنَاوَلُ الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ النِّعَمِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَاقِي فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ، وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ لَمَّا رَوَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابن عباس قال له بعضهم: إنا نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكَوْثَرَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ حَمْلَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَمَّا الْحَوْضُ وَسَائِرُ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْوَاقِعِ إِلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ أُعِدَّ لَهُ فَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute