للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ وَنَحْرُهُمْ لِلصَّنَمِ فَقِيلَ لَهُ: لِتَكُنْ صَلَاتُكَ وَنَحْرُكَ لِلَّهِ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ لِلْمُرَاءَاةِ فَصَلِّ أَنْتَ لَا لِلرِّيَاءِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ تُفِيدُ سَبَبِيَّةَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: سَبَبِيَّةُ الْعِبَادَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْثِيرُ الْإِنْعَامِ عَلَيْكَ يُوجِبُ عَلَيْكَ الِاشْتِغَالَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالثَّانِي: سَبَبِيَّةُ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ أَبْتَرُ فَقِيلَ لَهُ:

كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِطَاعَتِكَ وَلَا تُبَالِ بِقَوْلِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ مَحْبُوبَةً وَلَازِمُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ اقْتَضَتْ كَوْنَ الصَّلَاةِ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ النِّعَمِ، لَا جَرَمَ صَارَتِ الصَّلَاةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

فَقَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»

وَلَقَدْ صلى حتى تورمت قدماه، فقيل له: أو ليس قَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

فَقَوْلُهُ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ بِمُقْتَضَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَانَ الْأَلْيَقُ في الظاهر أن يقول: إن أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لَنَا وَانْحَرْ لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِفَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنَّ وُرُودَهُ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنْ أُمَّهَاتِ أَبْوَابِ الْفَصَاحَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ صَرْفَ الْكَلَامِ مِنَ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ يُوجِبُ نَوْعَ عَظَمَةٍ وَمَهَابَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ لِمَنْ يُخَاطِبُونَهُمْ: يَأْمُرُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْهَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ لَيْسَ فِي صَرِيحِ لَفْظِهِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَأَيْضًا كَلِمَةُ إِنَّا تَحْتَمِلُ الْجَمْعَ كَمَا تَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ الْمُعَظِّمَ نَفْسَهُ، فَلَوْ قَالَ: صَلِّ لَنَا، لَنُفِيَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَمْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيكِ، فَلِهَذَا تَرَكَ اللَّفْظَ، وَقَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ إِزَالَةً لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَتَصْرِيحًا بِالتَّوْحِيدِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِلَّهِ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّبِّ يُفِيدُ التَّرْبِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وَيُفِيدُ الْوَعْدَ الْجَمِيلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ يُرَبِّيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَذْكُورَ عَقِبَ الصَّلَاةِ هو الزكاة، فلم كان المذكور هاهنا هو النحر؟ والثاني: لما لَمْ يَقُلْ: ضَحِّ حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ/ الضَّحَايَا؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْعِيدِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ صَلَوَاتُهُمْ وَقَرَابِينُهُمْ لِلْأَوْثَانِ، فَقِيلَ لَهُ: اجْعَلْهُمَا لِلَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:

إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، بَلْ كَانَ يَمْلِكُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ، أَمَّا النَّحْرُ فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ

لِقَوْلِهِ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَّتِي الضُّحَى وَالْأَضْحَى وَالْوِتْرُ»

وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَعَزَّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ بِنَحْرِهَا وَصَرَفَهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى قَطْعِ الْعَلَائِقِ النَّفْسَانِيَّةِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا،

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَنَحَرَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَعْيَا، ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَكَانَتِ النُّوقُ يَزْدَحِمْنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>