للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَشَّرَهُ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَهْنَأُ إِلَّا إِذَا صَارَ الْعَدُوُّ مَقْهُورًا، لَا جَرَمَ وَعَدَهُ بِقَهْرِ الْعَدُوِّ فَقَالَ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَفِيهِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أَفْعَلُهُ لِكَيْ يَرَى بَعْضَ أَسْبَابِ دَوْلَتِكَ، وَبَعْضَ أَسْبَابِ مِحْنَةِ نَفْسِهِ فَيَقْتُلَهُ الْغَيْظُ وَثَانِيهَا: وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ شَانِئًا، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا الَّذِي يُبْغِضُكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ سِوَى أَنَّهُ يُبْغِضُكَ، وَالْمُبْغِضُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِيذَاءِ، فَحِينَئِذٍ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ غَيْظًا وَحَسَدًا، فَتَصِيرُ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الْمِحْنَةِ لِذَلِكَ الْعَدُوِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ أَبْتَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ شَانِئًا لَهُ وَمُبْغِضًا، وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ عَادَى مَحْسُودًا فَقَدْ عَادَى اللَّهَ تعالى، لا سيما من تكفل بإعلان شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَرْتَبَتِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَدُوَّ وَصَفَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَنَفْسَهُ بِالْكَثْرَةِ وَالدَّوْلَةِ، فَقَلَبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْعَزِيزُ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَالذَّلِيلُ مَنْ أَذَلَّهُ اللَّهُ، فَالْكَثْرَةُ وَالْكَوْثَرُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَبْتَرِيَّةُ وَالدَّنَاءَةُ وَالذِّلَّةُ لِلْعَدُوِّ، فَحَصَلَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا نَوْعٌ مِنَ الْمُطَابَقَةِ لِطَيْفٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي مَطَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَقَاطِعِهَا عَرَفَ أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ. رُوِيَ عَنْ مُسَيْلِمَةَ أَنَّهُ عَارَضَهَا فَقَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَمَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَجَاهِرْ، إِنَّ مُبْغَضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْمَخْذُولُ أَنَّهُ مَحْرُومٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ وَالتَّرْتِيبَ مَأْخُوذَانِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارَضَةً وَثَانِيهَا: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَكَالْأَصْلِ لِمَا بَعْدَهَا، فَذِكْرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَحْدَهَا يَكُونُ إِهْمَالًا لِأَكْثَرِ لِطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ وَثَالِثُهَا: التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفٍ آخَرَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ وَلَا نَاصِرَ لَهُ، وَآخَرُ بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنْهُ ذِكْرٌ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ مَدْحًا أَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ الْفَضَائِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَيِّدُ ذَلِكَ الْكَوْثَرَ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، لَا جَرَمَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِمَجْمُوعِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ الطَّاعَاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَاعَةَ الْبَدَنِ أَوْ طَاعَةَ الْقَلْبِ، أَمَّا طَاعَةُ الْبَدَنِ فَأَفْضَلُهُ شَيْئَانِ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْبَدَنِ هِيَ الصَّلَاةُ، وَطَاعَةَ الْمَالِ هِيَ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا طَاعَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِشَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ اللَّهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْقَلْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ طَاعَةِ الْبَدَنِ، فَقَدَّمَ طَاعَةَ الْبَدَنِ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

فَصَلِّ وَأَخَّرَ اللَّامَ الدَّالَّةَ عَلَى طَاعَةِ الْقَلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَسْتَغْنِي بِطَاعَةِ قَلْبِهِ عَنْ طَاعَةِ جَوَارِحِهِ، فَهَذِهِ اللَّامُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ نَبَّهَ بِلَفْظِ الرَّبِّ عَلَى عُلُوِّ حَالِهِ فِي الْمَعَادِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُنْتُ رَبَّيْتُكَ قَبْلَ وُجُودِكَ، أَفَأَتْرُكُ تَرْبِيَتَكَ بَعْدَ مُوَاظَبَتِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ كَمَا تَكَفَّلَ أَوَّلًا بِإِفَاضَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ تَكَفَّلَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَإِبْطَالِ قَوْلِ أَعْدَائِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ بِإِفَاضَةِ النِّعَمِ، وَالْآخِرُ بِتَكْمِيلِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>