السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ حَتَّى عَطَفَ الْفَتْحَ عَلَى النَّصْرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا:
النَّصْرُ هُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَالْفَتْحُ هُوَ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي كَانَ متعلقا، وظاهر أن النصر كالسبب الفتح، فَلِهَذَا بَدَأَ بِذِكْرِ النَّصْرِ وَعَطَفَ الْفَتْحَ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: النَّصْرُ كَمَالُ الدِّينِ، وَالْفَتْحُ الْإِقْبَالُ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي هُوَ تَمَامُ النِّعْمَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: ٣] وَثَالِثُهَا: النَّصْرُ هُوَ الظَّفَرُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُنَى، وَالْفَتْحُ بِالْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزُّمَرِ: ٧٣] وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي النَّصْرِ أَنَّهُ الْغَلَبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْعَرَبِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبَدًا مَنْصُورًا بِالدَّلَائِلِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَمَا الْمَعْنَى مِنْ تَخْصِيصِ لَفْظِ النَّصْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّصْرِ هُوَ النَّصْرُ الْمُوَافِقُ لِلطَّبْعِ، إِنَّمَا جُعِلَ لَفْظُ النَّصْرِ الْمُطْلَقِ دَالًّا عَلَى هَذَا النَّصْرِ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّ هَذَا النَّصْرَ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا جُعِلَ مَا قَبْلَهُ كَالْمَعْدُومِ، كَمَا أَنَّ الْمُثَابَ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يُتَصَوَّرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ نِعْمَةً قَطُّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] ، وَثَانِيهِمَا: لَعَلَّ الْمُرَادَ نَصْرُ اللَّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِأَنْبِيَائِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ [نُوحٍ: ٤] .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: النَّصْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٦] فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: نَصْرُ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ مَعْنَاهُ نَصْرٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا يَلِيقُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ وَيُقَالُ: هَذَا صَنْعَةُ زَيْدٍ إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَشْهُورًا بِإِحْكَامِ الصَّنْعَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا هاهنا، أَوْ نَصْرُ اللَّهِ لِأَنَّهُ إِجَابَةٌ لِدُعَائِهِمْ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ فَيَقُولُ هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَصْفُ النَّصْرِ بِالْمَجِيءِ مَجَازٌ وَحَقِيقَتُهُ إِذَا وَقَعَ نَصْرُ اللَّهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ الْحَقِيقَةِ وَذِكْرِ الْمَجَازِ؟ الْجَوَابُ فِيهِ إِشَارَاتٌ: إِحْدَاهَا: أَنَّ الْأُمُورَ مَرْبُوطَةٌ بِأَوْقَاتِهَا وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ لِحُدُوثِ كُلِّ حَادِثٍ أَسْبَابًا مُعَيَّنَةً وَأَوْقَاتًا مُقَدَّرَةً يَسْتَحِيلُ فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالتَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَاءَ ذَلِكَ الزَّمَانُ حَضَرَ مَعَهُ ذَلِكَ الْأَثَرُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: ٢١] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ كَانَ كَالْمُشْتَاقِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِحُكْمِ، الْوَعْدِ فَالْمُقْتَضَى كَانَ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّ تَخَلُّفَ الْأَثَرِ كَانَ لِفُقْدَانِ الشَّرْطِ فَكَانَ كَالثَّقِيلِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّ ثِقَلَهُ يُوجِبُ الْهُوِيَّ إِلَّا أَنَّ الْعَلَاقَةَ مَانِعَةٌ فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى، فكذا هاهنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا:
أَنَّ عَالَمَ الْعَدَمِ عَالَمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ عَالَمُ الظُّلُمَاتِ إِلَّا أَنَّ فِي قَعْرِهَا يَنْبُوعَ الْجُودِ وَالرَّحْمَةِ وَهُوَ يَنْبُوعُ جُودِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ، ثُمَّ انْشَعَبَتْ بِحَارُ الْجُودِ وَالْأَنْوَارِ وَأَخَذَتْ فِي السَّيَلَانِ، وَسَيَلَانُهَا يَقْتَضِي فِي كُلِّ حِينٍ وُصُولَهَا إِلَى مَوْضِعٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَبِحَارُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَتِهِ كَانَتْ آخِذَةً فِي السَّيَلَانِ مِنَ الْأَزَلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ قَرُبَ وُصُولُهَا إِلَيْكَ وَمَجِيئُهَا إِلَيْكَ فَإِذَا جَاءَتْكَ أَمْوَاجُ هَذَا الْبَحْرِ فَاشْتَغِلْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ السَّفِينَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْخَلَاصُ مِنْ بِحَارِ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا بِهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا رَكِبَ أَبُوكَ نُوحُ بَحْرَ الْقَهْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ اسْتَعَانَ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: ٤١] .
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ أَعَانُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ هُمُ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى نُصْرَتَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ: نَصْرُ اللَّهِ فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ صَارَ الْفِعْلُ الصَّادِرُ عَنْهُمْ مُضَافًا إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute