للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: ٥٣] .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْخِزْيِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالْقَتْلِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فَإِنَّ الْخِزْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْإِذْلَالِ فَكُلُّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ وَذَلِكَ رَدْعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْخِزْيَ الْحَاضِرَ يَصْرِفُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى مَجْرَى النِّهَايَةِ/ فِي الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ وَصَفَهُمْ بِأَعْظَمِ الظُّلْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ الْعَظِيمَ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنِّ: ١٨] . أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إِلَى ذَاتِهِ بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ١٨] فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى حَصْرِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ. وَثَالِثُهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النُّورِ: ٣٦] .

وَرَابِعُهَا: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ يَتَنَاوَلُ الْمُشْرِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] فَإِذَا كَانَ السَّاعِي فِي تَخْرِيبِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّاعِي فِي عِمَارَتِهِ فِي أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ، فَأَحَدُهَا: مَا

رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .

وَثَانِيهَا: مَا

رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» ،

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ السِّرُّ الْعَقْلِيُّ فِي تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ إِنَّمَا تَتَشَرَّفُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالسُّوقُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الْغَفْلَةَ عَنِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِنَّ ذَاكَرَ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ السُّوقَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَشْرَفَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَسْوَاقُ أَخَسَّ الْمَوَاضِعِ. الثَّانِي: فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ (أ)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إِحْدَاهَا تَحُطُّ خَطِيئَتَهُ وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَتَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(ب)

أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ.

(ج)

أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ أَبْعَدَ مَنْزِلًا مِنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَوَاتُ مَعَ