الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لَامُ الِاخْتِصَاصِ أَيْ هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: ١٧] وقوله: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: ٤٠] ، ورَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْمُزَّمِّلِ: ٩] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَارَ بِذِكْرِهِمَا إِلَى ذِكْرِ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَبَيَّنَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مَمْلُوكَتَانِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَةَ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ فِي الْوَهْمِ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ، وَكُلُّ مُنْقَسِمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ وَمُوجِدٍ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ عَامَّةٌ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا، أَعْنِي الْفَوْقَ وَالتَّحْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَالْخَالِقُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَخْلُوقِ لَا مَحَالَةَ، فَقَدْ كَانَ الْبَارِي تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِهَاتِ وَالْأَحْيَازِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ وَالْمَاهِيَّاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا وَلَهُ وَجْهٌ جُسْمَانِيٌّ لَكَانَ وَجْهُهُ مُخْتَصًّا بِجَانِبٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَمَا كَانَ يَصْدُقُ قَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَلَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ جِسْمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَالسَّعَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ لكنا بينا أنا لو حملناه هاهنا عَلَى الْعُضْوِ لَكَذَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لِلْمَشْرِقِ لَاسْتَحَالَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ مُحَاذِيًا لِلْمَغْرِبِ أَيْضًا، فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ إِضَافَةَ وَجْهِ اللَّهِ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِضَافَةُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، فَقَوْلُهُ:
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ: فَثَمَّ وَجْهُهُ الَّذِي وَجَّهَكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ لَهُ بِوَجْهَيْهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ قِبْلَةً لِنَصْبِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا/ فَأَيُّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعَالَمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ نَصَبَهُ وَعَيَّنَهُ فَهُوَ قِبْلَةٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهِ الْقَصْدَ وَالنِّيَّةَ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ أُحْصِيهِ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ٧٩] . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَثَمَّ مَرْضَاةُ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: ٩] يَعْنِي لِرِضْوَانِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] يَعْنِي مَا كَانَ لِرِضَا اللَّهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ وَجْهِهِ وَقُدَّامِهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَطْلُبُ مَرْضَاةَ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ مَرْضَاتِهِ، فَلِهَذَا سُمِّيَ طَلَبُ الرِّضَا بِطَلَبِ وَجْهِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَجْهَ صِلَةٌ كَقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَيَقُولُ النَّاسُ هَذَا وَجْهُ الْأَمْرِ لَا يُرِيدُونَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غيره، إنما يريدون به أنه من هاهنا يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ هَذَا الْأَمْرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ يَبْقَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ: فَثَمَّ قِبْلَتُهُ الَّتِي يُعْبَدُ بِهَا، أَوْ ثَمَّ رَحْمَتُهُ وَنِعْمَتُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute