للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِأَنَّا نَعْلَمُهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ غَدًا تَطْلُعُ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ معلومة لله تعالى، لأن تعلق اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومِ أَمْرٌ ثَبَتَ لَهُ لِذَاتِهِ، فَلَيْسَ تَعَلُّقُهُ بِبَعْضِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، فَلَوْ حَصَلَ التَّخْصِيصُ لَافْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَذَلِكَ/ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ أَصْلًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْقُدْرَةِ، فَالتَّابِعُ لَا يُنَافِي الْمَتْبُوعَ، فَالْعِلْمُ لَازِمٌ لَا يُغْنِي عَنِ الْقُدْرَةِ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَهْلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن فِي نَفْسِهَا عَدَدٌ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِنَا:

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِثْبَاتُ الْجَهْلِ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَعْلُومِ أَنْ يَعْلَمَ الْعِلْمُ تَمَيُّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَلَوْ كَانَ تَوَقُّفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الْعِلْمِ بِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَمَيُّزِهِ مِنْ غَيْرِهِ يُوقَفُ عَلَى الْعِلْمِ بِغَيْرِهِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا إِذَا عَلِمَ أُمُورًا لَا نِهَايَةَ لَهَا.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: فَالْجَوَابُ عَنْهَا بِالنَّقْضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا انْتَقَضَتِ الشُّبْهَةُ سَقَطَتْ، فَيَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ عَالِمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى سَالِمًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أن الضمير لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ، فَالضَّمِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَذْكُورِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمُتَأَخِّرًا مَعْنًى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، مِنْهُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ متقدماً لفظاً ومعنى فالمشهور عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي بِجَوَازِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالشِّعْرِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ:

جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَثِّرٌ وَالْمَفْعُولَ قَابِلٌ وَتَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِهِمَا شَدِيدٌ، فَلَا يَبْعُدُ تَقْدِيمُ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ عَلَى الْآخَرِ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، فَكَذَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ جَائِزٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ غُلَامَهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَقَدِّمًا فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَعْنَى وَهُوَ كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ غُلَامَهُ زَيْدٌ، فَهَهُنَا الضَّمِيرُ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَنْصُوبَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَرْفُوعِ فِي التَّقْدِيرِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ: زَيْدٌ ضَرَبَ غُلَامَهُ فَلَا جَرَمَ كَانَ جَائِزًا. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مُتَقَدِّمًا فِي الْمَعْنَى مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فَإِنَّ الْمَرْفُوعَ