بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُفُوذَ الشَّيَاطِينِ فِي بَوَاطِنِ النَّاسِ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إِمَّا اتِّسَاعُ تِلْكَ الْمَجَارِي أَوْ تَدَاخُلُ تِلْكَ الْأَجْسَامِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ حَاصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا النُّفُوذِ فَلِمَ لَا يَخُصُّهُمْ بِمَزِيدِ الضَّرَرِ؟ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، فَلَوْ دَخَلَ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ لَصَارَ كَأَنَّهُ نَفَّذَ النَّارَ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ/ لَا يُحَسُّ بِذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُحِبُّونَ الْمَعَاصِيَ وَأَنْوَاعَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، ثُمَّ إِنَّا نَتَضَرَّعُ بِأَعْظَمِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِمْ لِيُظْهِرُوا أَنْوَاعَ الْفِسْقِ فَلَا نَجِدُ مِنْهُ أَثَرًا وَلَا فَائِدَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى لَا مِنْ عَدَاوَتِهِمْ ضَرَرًا وَلَا مِنْ صَدَاقَتِهِمْ نَفْعًا.
وَأَجَابَ مُثْبِتُو الشَّيَاطِينِ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نُفُوسٌ مُجَرَّدَةٌ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ كَالضَّوْءِ وَالْهَوَاءِ فَالسُّؤَالُ أَيْضًا زَائِلٌ، وَعَنِ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يَمْنَعُونَهُمْ عَنْ إِيذَاءِ عُلَمَاءِ الْبَشَرِ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٩] فَلِمَ لا يجوز مثله هاهنا، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ مُخْتَارُونَ، وَلَعَلَّهُمْ يَفْعَلُونَ بعض القبائح دون بعض.
تحقيق الكلام في الوسوسة:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي الْوَسْوَسَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» ، قَالَ: الْقَلْبُ مِثْلُ قُبَّةٍ لَهَا أَبْوَابٌ تَنْصَبُّ إِلَيْهَا الْأَحْوَالُ مِنْ كُلِّ بَابٍ، أَوْ مِثْلُ هَدَفٍ تُرْمَى إِلَيْهِ السِّهَامُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَوْ مِثْلُ مِرْآةٍ مَنْصُوبَةٍ تَجْتَازُ عَلَيْهَا الْأَشْخَاصُ، فَتَتَرَاءَى فِيهَا صُورَةٌ بَعْدَ صُورَةٍ، أَوْ مِثْلُ حَوْضٍ تَنْصَبُّ إِلَيْهِ مِيَاهٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ أَنْهَارٍ مَفْتُوحَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَاخِلَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَجَدِّدَةِ فِي الْقَلْبِ سَاعَةً فَسَاعَةً إِمَّا مِنَ الظَّاهِرِ كَالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَإِمَّا مِنَ الْبَوَاطِنِ كَالْخَيَالِ وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرَكَّبَةِ فِي مِزَاجِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ شَيْئًا حَصَلَ مِنْهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا إِذَا هَاجَتِ الشَّهْوَةُ أَوِ الْغَضَبُ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ آثَارٌ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا إِذَا مُنِعَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْإِدْرَاكَاتِ الظَّاهِرَةِ فَالْخَيَالَاتُ الْحَاصِلَةُ فِي النَّفْسِ تَبْقَى، وَيَنْتَقِلُ الْخَيَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَبِحَسَبِ انْتِقَالِ الْخَيَالِ يَنْتَقِلُ الْقَلْبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْقَلْبُ دَائِمًا فِي التَّغَيُّرِ وَالتَّأَثُّرِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَأَخَصُّ الْآثَارِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ هِيَ الْخَوَاطِرُ، وَأَعْنِي بِالْخَوَاطِرِ مَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْأَذْكَارِ، وَأَعْنِي بِهَا إِدْرَاكَاتٍ وَعُلُومًا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى خَوَاطِرَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا تَخْطُرُ بِالْخَيَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْقَلْبُ غَافِلًا عَنْهَا، فَالْخَوَاطِرُ هِيَ الْمُحَرِّكَاتُ لِلْإِرَادَاتِ، وَالْإِرَادَاتُ مُحَرِّكَةٌ لِلْأَعْضَاءِ، ثُمَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ الْمُحَرِّكَةُ لِهَذِهِ الْإِرَادَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَدْعُو إِلَى الشَّرِّ أَعْنِي إِلَى مَا يَضُرُّ فِي الْعَاقِبَةِ- وَإِلَى مَا يَنْفَعُ- أَعْنِي مَا يَنْفَعُ فِي الْعَاقِبَةِ- فَهُمَا خَاطِرَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَافْتَقَرَا إِلَى اسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَالْخَاطِرُ الْمَحْمُودُ يُسَمَّى إِلْهَامًا، وَالْمَذْمُومُ يُسَمَّى وِسْوَاسًا، ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ أَحْوَالٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ، وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَاءِ الْكُلِّ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ بعد حذف التطويلات منه.
تحقيق كلام الغزالي:
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَارَ حَوْلَ الْمَقْصُودِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَزِيدِ التَّنْقِيحِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ.
المقدمة الأولى: لا شك أن هاهنا مَطْلُوبًا وَمَهْرُوبًا. وَكُلُّ مَطْلُوبٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute