كَوْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَهُ لَكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ الْكَائِنَ عِنْدَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَسَأَلْتَهُ عَنِ التَّعْيِينِ قُلْتَ: أَزْيَدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ أَيِ اعْلَمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَكَ لَكِنْ أَهُوَ هَذَا أَوْ ذَاكَ؟ وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَقَالُوا: إِنَّهَا بِمَعْنَى «بَلْ» مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثَالُهُ: إذا قال إنها لا بل أَمْ شَاءٌ، فَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ سَبَقَ بَصَرُهُ إِلَى الْأَشْخَاصِ فَقَدَّرَ أَنَّهَا إِبِلٌ فَأَخْبَرَ عَلَى مُقْتَضَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْإِبِلُ، ثُمَّ جَاءَهُ الشَّكُّ وَأَرَادَ أَنْ يُضْرِبَ عَنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَأَنْ يَسْتَفْهِمَ أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَاءٌ أَمْ لَا، فَالْإِضْرَابُ عَنِ الْأَوَّلِ هُوَ مَعْنَى «بَلْ» وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَنَّهَا شَاءٌ هُوَ الْمُرَادُ بِهَمْزَةِ الاستفهام، فقولك: إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك: إنها لا بل أهي شاء بقولك: أَهِيَ شَاءٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: إنها لا بل، وَكَيْفَ وَذَلِكَ قَدْ وَقَعَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُتَّصِلَةِ فَإِنَّ قَوْلَكَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ بِمَعْنَى أَيُّهُمَا عِنْدَكَ وَلَمْ يَكُنْ «مَا» بَعْدَ «أَمْ» مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ عَمْرًا قَرِينُ زَيْدٍ وَكَفَى دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بَاسِمٍ مُفْرَدٍ فَتَقُولُ: أَيُّهُمَا عِنْدَكَ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوْعَيْنِ كَثِيرٌ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها [النَّازِعَاتِ: ٢٧، ٢٨] أَيْ أَيُّكُمَا أَشَدُّ، وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السَّجْدَةِ: ١- ٣] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، فَدَلَّ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِفْهَامِ عَمَّا بَعْدَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَعْنًى، أَيْ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَمَنْ لَا يُحَقِّقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّ «أم» هاهنا بِمَنْزِلَةِ الْهَمْزَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ «أَمْ» هَذِهِ الْمُنْقَطِعَةَ: تَتَضَمَّنُ مَعْنَى بَلْ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ «أَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْفَصِلَةٌ أَمْ مُتَّصِلَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِيهَا الْإِنْكَارُ أَيْ: بَلْ مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ، «وَالشُّهَدَاءُ» جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ أَيْ مَا كنتم حاضرين عند ما حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، وَالْخِطَابَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ فِيمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ دِينُ الرُّسُلِ: كَيْفَ تَقُولُونَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ بِالدِّينِ وَلَوْ شَهِدْتُمْ ذَلِكَ لَتَرَكْتُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَرَغِبْتُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَعْقُوبُ وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا بَاطِلًا بَلْ حَقًّا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ مُتَعَلِّقٌ بِمُجَرَّدِ ادِّعَائِهِمُ الْحُضُورَ عِنْدَ وَفَاتِهِ هَذَا هُوَ الذي أنكره الله تعالى. فأما ما ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فَهُوَ كَلَامٌ مُفَصَّلٌ بَلْ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْكَرَ حُضُورَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ أَمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلَةٌ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِيَّةَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ يَعْنِي إِنَّ أَوَائِلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ إِذْ دَعَا بَنِيهِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَمَا لَكُمْ تَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: [في معنى إذ في الآية] قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ أَنَّ «إِذِ» الْأُولَى وَقْتَ الشهداء، وَالثَّانِيَةَ وَقْتَ الْحُضُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَفَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ كَانَتْ فِي بَابِ الدِّينِ وَهِمَّتَهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute