للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الْبَقَرَةِ: ٨٠] وَهِيَ أَيَّامُ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بُطْلَانَ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْكَسْبِ.

أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا دُخُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ بِقُدْرَتِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ذَكَرُوا لِهَذَا الْكَسْبِ ثَلَاثَ تَفْسِيرَاتٍ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ، بَلِ الْقُدْرَةُ وَالْمَقْدُورُ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعْلُومَ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ هُوَ الْكَسْبُ. وَثَانِيهَا: / أَنَّ ذَاتَ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَحْصُلُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَصْفُ كَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَاصِلَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ وَالْقُدْرَةَ الْقَدِيمَةَ، إِذَا تَعَلَّقَتَا بِمَقْدُورٍ واحد وقع المقدور بهما، وكأنه فِعْلَ الْعَبْدِ وَقَعَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْكَسْبُ وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ بِالْمُعِينِ.

أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ مُؤَثِّرَةٌ، فَهُمْ فَرِيقَانِ. الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي تُوجِبُ الْفِعْلَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هو الخالق لكل بِمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَسْبَابَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى دُخُولِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فِي الْوُجُودِ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُقُوعِ فِعْلِهِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالدَّاعِيَةُ الْقَائِمَتَانِ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالنِّظَامِيَّةِ وَيَقْرُبُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِهِ.

الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُدْرَةُ مَعَ الدَّاعِي لَا تُوجِبُ الْفِعْلَ، بَلِ الْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَهَذَا الْفِعْلُ وَالْكَسْبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لِلْأَشْعَرِيِّ: إِذَا كَانَ مَقْدُورُ الْعَبْدِ وَاقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا خَلَقَهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ لَا يَتَّصِفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُقْهُ فِيهِ: اسْتَحَالَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْبَتَّةَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا مَعْنَى لِلْقَادِرِ إِلَّا ذَلِكَ، فَالْعَبْدُ الْبَتَّةَ غَيْرُ قَادِرٍ، وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي هُوَ مُكْتَسَبُ الْعَبْدِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا، فَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فَكَيْفَ يَكُونُ مُكْتَسِبًا لَهُ؟ وَإِنْ وَقَعَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ وَقَعَ بِالْقُدْرَتَيْنِ مَعًا فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيقَاعِ، فَعِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ أَثَرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ إِلَّا شَغْلَ تِلْكَ الْأَحْيَازِ، فَهَذَا الشَّغْلُ إِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ حَصَلَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُ الأسفرايني فَضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ، فَلَا يَبْقَى لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ مَعَهَا أَثَرٌ الْبَتَّةَ، قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: كَوْنُ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ مُحَالٌ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مُوجِدًا لِأَفْعَالِهِ، لَكَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ فِعْلِهِ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فَهُوَ غَيْرُ مُوجِدٍ لَهَا. وَثَانِيهَا:

لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَمَا وَقَعَ إِلَّا مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ فَلَا يُحَصِّلُ إِلَّا الْجَهْلَ. وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ لَكَانَ كَوْنُهُ مُوجِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَذَاتِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ ذَاتَ الْفِعْلِ وَذَاتَ الْقُدْرَةِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ،