الْكُلَّ. قَالَ الْقَاضِي: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ وُقُوعِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُمْ فِي الْجُمْلَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهِ بَعِيدًا قُلْنَا: هَذَا الْقَدْرُ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ وَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْدَاءَ مَجْبُولُونَ عَلَى الْقَدْحِ وَالطَّعْنِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجَالًا لَمْ يَتْرُكُوا مَقَالًا الْبَتَّةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلَّاهُ عَنْهُ صَرَفَهُ عَنْهُ وَوَلَّى إِلَيْهِ بِخِلَافِ وَلَّى عَنْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الْأَنْفَالِ: ١٦] وَقَوْلُهُ: مَا وَلَّاهُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعَجُّبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: في هذا التولي وجهان. الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَابَ الْكُفَّارُ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتَى حَوَّلَ الْقِبْلَةَ بَعْدَ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ مُعَاذٍ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنْ قَتَادَةَ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ آخرون: بل سنتان. الوجه الثاني: قول أب مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْخَبَرُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَوَّلَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ لَفْظُ الْآيَةِ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ كَانُوا عَلَيْهَا، أَيِ السُّفَهَاءُ كَانُوا عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقِبْلَةَ النَّصَارَى، فَالْأُولَى إِلَى الْمَغْرِبِ وَالثَّانِيَةُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَجَّهُوا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْكَعْبَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنْكَرًا، فَقَالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ أَحَدٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ صَدَقَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الرِّوَايَاتُ الظَّاهِرَةُ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
/ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ القبلة لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا وَتُقَابِلُهُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ لِفُلَانٍ قِبْلَةٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ من الاستقبال، وقال غيره: إذ تَقَابَلَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبْلَةٌ لِلْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ:
جَعَلْتُ مَأْوَاكَ لِي قَرَارًا ... وَقِبْلَةً حَيْثُمَا لَجَأْتُ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَمُلْكًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهَا لِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قِبْلَةً، بَلْ إِنَّمَا تَصِيرُ قِبْلَةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا قبلة، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عَلَيْهِ بِالتَّحْوِيلِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ أَوَّلًا فِي تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ؟ ثُمَّ مَا الْحِكْمَةُ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَفِيهَا الْخِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ تَعْلِيلُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَتَّةَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا وُجُودِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute