لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِوَجْهِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْهُ، وَأَنْ يُبَالِغَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَيُبَالِغَ فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّضَرُّعِ لَهُ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَجْرِي مَجْرَى كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا لِلْمَلِكِ لَا مُعْرِضًا عَنْهُ، وَالْقِرَاءَةُ وَالتَّسْبِيحَاتُ تَجْرِي مَجْرَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ حُضُورُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحُضُورُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ السُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْحَرَكَةِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا بَقِيَ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ مُسْتَقْبِلًا لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا اخْتَصَّ بَعْضُ الْجِهَاتِ بِمَزِيدِ شَرَفٍ فِي الْأَوْهَامِ، كَانَ اسْتِقْبَالُ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تعالى يجب الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمِنَّةَ بها عليهم، حيث قال:
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله: إِخْواناً [آل عمران: ١٠٣] ولو توجه وَاحِدٍ فِي صَلَاتِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، فَعَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ جِهَةً مَعْلُومَةً، وَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوَجُّهِ نَحْوَهَا، لِيَحْصُلَ لَهُمُ الْمُوَافَقَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إلى أن الله تعالى يجب الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْكَعْبَةَ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ في قوله: بَيْتِيَ وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِإِضَافَتِهِمْ بِصِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ، وَكِلْتَا/ الْإِضَافَتَيْنِ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّكْرِيمِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُؤْمِنُ أَنْتَ عَبْدِي، وَالْكَعْبَةُ بَيْتِي، وَالصَّلَاةُ خِدْمَتِي، فَأَقْبِلْ بِوَجْهِكَ فِي خِدْمَتِي إِلَى بَيْتِي، وَبِقَلْبِكَ إِلَيَّ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِنَّ الْيَهُودَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: ٤٤] الْآيَةَ، وَالنَّصَارَى اسْتَقْبَلُوا الْمَغْرِبَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مَرْيَمَ: ١٦] وَالْمُؤْمِنُونَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ خَلِيلِ اللَّهِ، وَمَوْلِدُ حَبِيبِ اللَّهِ، وَهِيَ مَوْضِعُ حَرَمِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى مَطْلَعَ الْأَنْوَارِ، وَقَدِ اسْتَقْبَلْنَا مَطْلَعَ سَيِّدِ الْأَنْوَارِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْ نُورِهِ خُلِقَتِ الْأَنْوَارُ جَمِيعًا. وَسَادِسُهَا: قَالُوا: الْكَعْبَةُ سُرَّةُ الْأَرْضِ وَوَسَطُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى وَسَطِ الْأَرْضِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلِأَجْلِهِ جَعَلَ وَسَطَ الْأَرْضِ قِبْلَةً لِلْخَلْقِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ حُبَّهُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَاسِطَةِ أَمْرِهِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى ذَلِكَ مُدَّةً لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] الْآيَةَ، وَفِي الشَّاهِدِ إِذَا وُصِفَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَحَبَّةِ آخَرَ قَالُوا: فُلَانٌ يُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ فُلَانٍ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ لِأَجْلِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِهَةِ التَّحْقِيقِ، وَقَالَ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] وَلَمْ يَقُلْ قِبْلَةً أَرْضَاهَا، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ رِضَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ رِضَاكَ فِي الدَّارَيْنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى شَرَفِ الْفُقَرَاءِ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] وَقَالَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقِبْلَةِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٤٥] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ وَجْهِكَ، وَالْفُقَرَاءُ قِبْلَةُ رَحْمَتِي، فَإِعْرَاضُكَ عَنْ قِبْلَةِ وَجْهِكَ، يُوجِبُ كَوْنَكَ ظَالِمًا، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ قِبْلَةِ رَحْمَتِي كَيْفَ يَكُونُ. وَثَامِنُهَا: الْعَرْشُ قِبْلَةُ الْحَمَلَةِ، وَالْكُرْسِيُّ قِبْلَةُ الْبَرَرَةِ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ قِبْلَةُ السَّفَرَةِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَقُّ قِبْلَةُ الْمُتَحَيِّرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٥] وَثَبَتَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّورِ، وَالْكُرْسِيَّ مِنَ الدُّرِّ، وَالْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنَ الْيَاقُوتِ، وَالْكَعْبَةَ مِنْ جِبَالٍ خَمْسَةٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَا، وَطُورِ زَيْتَا، وَالْجُودِيِّ، وَلُبْنَانَ، وَحِرَاءٍ، وَالْإِشَارَةُ فِيهِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute