للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَسْتَنْكِرُ نَقْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ كَمَا لَا يَسْتَنْكِرُ نَقْلَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَمَنِ اهْتَدَى لِهَذَا النَّظَرِ ازْدَادَ بَصَرُهُ، وَمَنْ سَفِهَ وَاتَّبَعَ الْهَوَى وَظَوَاهِرَ الْأُمُورِ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ إِمَّا الدَّعْوَةُ أَوْ وَضْعُ الدَّلَالَةِ أَوْ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ هَاهُنَا بَاطِلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهَا ثَقِيلَةً عَلَى الْكُلِّ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ، وَوَضْعُ الدَّلَائِلِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْقُلَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ هَاهُنَا خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ فَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَرَادَ بِهِ الِاهْتِدَاءَ. وَثَالِثُهَا:

أَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهُدَى اللَّهِ فَغَيْرُهُمْ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ففيه مسائل:

المسألة الأولى: [فيمن ماتوا على القبلة الْأُولَى] أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَغَيْرِهِمْ مَاتُوا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَقَالَ عَشَائِرُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ إِخْوَانُنَا عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَكَيْفَ حَالُهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا السَّبَبِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَّصِلْ بَعْضُ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ إِلَّا مَعَ الْبَدَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَفْسَدَةً وَبَاطِلًا فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ ضَائِعَةً، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّسْخَ نَقْلٌ مِنْ مَصْلَحَةٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ/ وَمِنْ تَكْلِيفٍ إِلَى تَكْلِيفٍ، وَالْأَوَّلُ كَالثَّانِي فِي أَنَّ الْقَائِمَ بِهِ مُتَمَسِّكٌ بِالدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ أَجْرُهُ وَنَظِيرُهُ: مَا سَأَلُوا بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَمَّنْ مَاتَ وَكَانَ يَشْرَبُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ [الْمَائِدَةِ: ٩٣] فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الشَّكُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ تَجْوِيزِ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ وَقَعَ لِمُنَافِقٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِيَذْكُرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ فَقَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا مِمَّنْ مَاتَ أَدْرَكَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا:

لَعَلَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ دَفْعًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ لَوْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي نَقْلِكُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ أَقَرَّكُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ إِضَاعَةً عَنْهُ لِصَلَاتِكُمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَالِيَةً عَنِ الْمَصَالِحِ فَتَكُونُ ضَائِعَةً وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ مَا عَمِلُوهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.