وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَلِيلُ التَّحْصِيلِ، لِأَنَّ الْمُسْتَنْكَرَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَدْعُوهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَى شَيْءٍ فَيَتَمَنَّى فِي قَلْبِهِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، أَيْ بَعْدُ فِي أَنْ يَمِيلَ طَبْعُ الرَّسُولِ إِلَى شَيْءٍ فَيَتَمَنَّى فِي قَلْبِهِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا مِمَّا/ لَا اسْتِبْعَادَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَسْأَلُوا مَا لَا صَلَاحَ فِيهِ فَلَا يُجَابُوا إِلَيْهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي الْإِجَابَةِ عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ إِلَيْهِ فَكَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ فِي الْإِجَابَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُحَوِّلُ الْقِبْلَةَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى قِبْلَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يُحَوِّلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ قِبْلَةٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام فأمره أن يصل نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعَ مِنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ الْقِبْلَةُ، فَكَانَ يَخَافُ أَنْ يَرِدَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَظْهَرِ الْقِبْلَةُ فَتَتَأَخَّرَ صَلَاتُهُ فَلِذَلِكَ كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ عَنِ الْأَصَمِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ وُعِدَ بِذَلِكَ وَقِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَاقِيَةٌ بِحَيْثُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا، لَكِنْ لِأَجْلِ الْوَعْدِ كَانَ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو عِنْدَ التَّحْوِيلِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ، نَحْوَ: رَغْبَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَايَنَةِ عَنِ الْيَهُودِ، وَتَمْيِيزِ الْمُوَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَلِهَذَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى، وَإِلَّا لَمَا كَانَتِ الْقِبْلَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِلْأُولَى، بَلْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا مَعَ بَيَانِ مَوْضِعِ التَّوَجُّهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ تَقَلُّبَ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الدُّعَاءُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، قَالُوا: لَوْلَا الْأَخْبَارُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِمَكَّةَ جَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَهَذِهِ صَلَاةٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ لَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فَانْتَظَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ وَبِالْمَدِينَةِ أَوَّلًا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ فَرْضًا/ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِي تَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ فَرْضًا مُحَقَّقًا بِلَا تخيير.