بِيَقِينٍ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُمْكِنَةُ، أَمَّا سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْهُ فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا رَأَيْنَا فِي الشَّرْعِ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحَّتْ بِدُونِ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَفِي النَّافِلَةِ، وَأَمَّا إِيجَابُ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ بِأَسْرِهَا لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْيَقِينِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ قَالُوا: وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ تَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي جَمِيعِ الجهات.
البحث الثاني: أنه إذا مال قبله إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون ذلك الترجيح مبنياً على الاستدلال، بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا اجْتِهَادًا، وَهَلِ الْمُكَلَّفُ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»
وَلِأَنَّ سَائِرَ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ لَمَّا انْسَدَّتْ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقَدْرِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِذَا أَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ وَقَدْ صَحَّتْ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ سَوَاءٌ بَانَ صَوَابُهُ أَوْ خَطَؤُهُ.
/ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَعْبَةِ الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ لَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْكَعْبَةِ، بَلْ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَمُسْتَدْبِرًا عَنْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبِلًا لِكُلِّ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ قَالَ: وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، حُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا
أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى،
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ نَافِلَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ جَائِزٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَالِكًا خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ وَمُخَالَفَةُ الرَّاوِي وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْخَبَرِ إِلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ نَوْعَ مَرْجُوحِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ خلى عَنْ هَذَا الطَّعْنِ، فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ
الشَّيْخَيْنِ أَوْرَدَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»
وَالتَّعَارُضُ حَاصِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ يَتَعَارَضَانِ. وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَجُّهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَنْ جَوَّزَ الصَّلَاةَ دَاخِلَ الْبَيْتِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَلْ جَوَّزَ اسْتِدْبَارَهُ. وَالْجَوَابُ: عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ) إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ عُمُومٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَالْآتِي بِهِ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِيغَةَ عُمُومٍ لَمْ تَكُنِ الآية متناولة