للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبْهَةِ وَيَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النِّسَاءِ: ١٥٧] وَقَالَ النَّابِغَةُ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ بِسُيُوفِهِمْ فُلُولٌ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ وَيُقَالُ مَا لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ إِلَّا التَّعَدِّي يَعْنِي لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى وَيَظْلِمُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النَّمْلِ: ١٠، ١١] وَقَالَ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ: ٤٣] وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ عَادَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْعَرَبِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى الْوَاوِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَأَنْشَدَ:

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

يَعْنِي: وَالْفَرْقَدَانِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَ قُطْرُبٌ: مَوْضِعُ الَّذِينَ خَفْضٌ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذَانِ الْوَجْهَانِ بَعِيدَانِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي فَالْمَعْنَى لَا تَخْشَوْا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَتَعَنَّتُ وَيُجَادِلُ وَيُحَاجُّ، وَلَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فِي قِبْلَتِكُمْ فإنهم لا يضرنكم وَاخْشَوْنِي، يَعْنِي احْذَرُوا عِقَابِي إِنْ أَنْتُمْ عَدَلْتُمْ عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرْءِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَتُرُوكِهِ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: خَشْيَةَ عِقَابِ اللَّهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْخَلْقِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَأَنْ/ لَا يَكُونَ مُشْتَغِلَ الْقَلْبِ بِهِمْ، وَلَا مُلْتَفِتَ الْخَاطِرِ إِلَيْهِمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُتَعَلَّقِ اللَّامِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَوَّلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ لِهَاتَيْنِ الْحِكْمَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: لِانْقِطَاعِ حُجَّتِهِمْ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: لِتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَلَمَّا حُوِّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَحِقَهُمْ ضَعْفُ قَلْبٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّحَوُّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الْبُقْعَةِ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّعْمَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُتَعَلَّقَ اللَّامِ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ: وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكُمْ وَإِرَادَتِي اهْتِدَاءَكُمْ أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قيل: واحشوني لِأُوَفِّقَكُمْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عِنْدَ قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: ٣] فَبَيَّنَ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَيْفَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ قُلْنَا: تَمَامُ النِّعْمَةِ اللَّائِقَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُوَ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «تَمَامُ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ»

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَامُ النِّعْمَةِ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ التَّشَكُّكِ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ إِلَى بَيْتِ