بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِتْمَانَ الدِّينِ يُنَاسِبُهُ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةً لِهَذَا الْحُكْمِ وَجَبَ عُمُومُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ حَمَلُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى فَحُمِلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَنْ/ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ قَالَ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَتَلَا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى وَاحْتَجَّ مَنْ خَصَّ الْآيَةَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّ الْكِتْمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْهُمْ فِي شَرْعِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، فَلَا يَصِحُّ كِتْمَانُهُ، قُلْنَا: الْقُرْآنُ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُتَوَاتِرًا يَصِحُّ كِتْمَانُهُ، وَالْمُجْمَلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْوَاحِدِ صَحَّ كِتْمَانُهُ وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْكِتْمَانُ تَرْكُ إِظْهَارِ الشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَحُصُولُ الدَّاعِي إِلَى إِظْهَارِهِ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يُعَدُّ كِتْمَانًا، فَلَمَّا كَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ أَشَدِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، وَصَفَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِالْكِتْمَانِ، كَمَا يُوصَفُ أَحَدُنَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بِالْكِتْمَانِ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا تَقْوَى الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْدَحُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ السِّرِّ، لِأَنَّ الْكِتْمَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِالدِّينِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَمَ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: ١٧٤] فَهَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ وَزَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا، وَنَظِيرُهَا فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التَّوْبَةِ: ١٢٢]
وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دُونَ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْهُدى يَدْخُلُ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلَائِلِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فَعَادَ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قُلْنَا: الْأَوَّلُ هُوَ التَّنْزِيلُ وَالثَّانِي مَا يَقْتَضِيهِ التَّنْزِيلُ مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَكَانَ كِتْمَانُهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَعِيدِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا الْإِظْهَارُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْبَعْضُ/ صَارَ بِحَيْثُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute