خَفِيَّةٌ، وَقَالَ الْفَلَاسِفَةُ: إِنَّهَا تَصَوُّرَاتُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَتَخَيُّلَاتُهَا عَلَى مِثَالِ الصُّوَرِ الْمُنْطَبِعَةِ فِي الْمَرَايَا، فَإِنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ تُشْبِهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُشَابِهَةً لَهَا فِي كُلِّ الْوُجُوهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صُوَرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخَيُّلَاتُهَا هَلْ تُشْبِهُ هَذِهِ الْحُرُوفَ فِي كَوْنِهَا حُرُوفًا أَوْ لَا تُشْبِهُهَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَصُوَرُ الْحُرُوفِ حُرُوفٌ، فَعَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ أَصْوَاتٌ وَحُرُوفٌ خَفِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَكُنْ تَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ حُرُوفًا، لَكِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَرَتِّبَةً مُنْتَظِمَةً عَلَى حَسَبِ انْتِظَامِهَا فِي الْخَارِجِ، وَالْعَرَبِيُّ لَا يَتَكَلَّمُ فِي قَلْبِهِ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا الْعَجَمِيُّ، وَتَصَوُّرَاتُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَعَاقُبُهَا وَتَوَالِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُطَابَقَةِ تَعَاقُبِهَا وَتَوَالِيهَا فِي الْخَارِجِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ خَفِيَّةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مَنْ هُوَ؟ أَمَّا عَلَى أَصْلِنَا وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْحَوَادِثِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهَا مَا يَكُونُ كَذِبًا وَسُخْفًا، لَزِمَ كَوْنُ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَهَا هُوَ الْعَبْدُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكْرَهُ حُصُولَ تِلْكَ الْخَوَاطِرَ، وَيَحْتَالُ فِي دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهَا الْبَتَّةَ لَا تَنْدَفِعُ، بَلْ يَنْجَرُّ الْبَعْضُ إِلَى الْبَعْضِ عَلَى سبيل الاتصال، / فإذن لا بد هاهنا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ إِمَّا الْمَلِكُ وَإِمَّا الشَّيْطَانُ، فَلَعَلَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي أَقْصَى الدِّمَاغِ، وَفِي أَقْصَى الْقَلْبِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّمَمِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْمَلِكَ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ الْبَتَّةَ، لَمْ يَبْعُدْ كَوْنُهَا قَادِرَةً عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ:
إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَوَلَّجُ بَوَاطِنَ الْبَشَرِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى بَوَاطِنِ الْبَشَرِ، وَلَا بَعُدَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لِغَايَةِ لَطَافَتِهَا تَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ فِي مَضَايِقِ بَاطِنِ الْبَشَرِ وَمَخَارِقِ جِسْمِهِ وَتُوصِلُ الْكَلَامَ إِلَى الأقصى قَلْبِهِ وَدِمَاغِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ لَطَافَتِهَا تَكُونُ مُسْتَحْكِمَةَ التَّرْكِيبِ، بِحَيْثُ يَكُونُ اتِّصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بِالْبَعْضِ اتِّصَالًا لَا يَنْفَصِلُ، فَلَا جَرَمَ لَا يَقْتَضِي نُفُوذُهَا فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ وَالْمَخَارِقِ انْفِصَالَهَا وَتَفَرُّقَ أَجْزَائِهَا وَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا وَالْأَمْرُ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ بِالْخَيْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الْأَنْفَالِ: ١٢] أَيْ أَلْهِمُوهُمُ الثَّبَاتَ وَشَجِّعُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً»
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «إِذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ لِبَنِي آدَمَ قَرَنَ إِبْلِيسُ بِهِ شَيْطَانًا وَقَرَنَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا، فَالشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْأَيْسَرِ، وَالْمَلَكُ جَاثِمٌ عَلَى أُذُنِ قلبه الأيمن فهما يدعوانه»
ومن صوفية والفلاسفة مَنْ فَسَّرَ الْمَلَكَ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَفَسَّرَ الشَّيْطَانَ الدَّاعِيَ إِلَى الشَّرِّ بِالْقُوَّةِ والشهوانية والغضبية.
المسألة الثاني: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْقَبَائِحِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ إِنَّما وَهِيَ لِلْحَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ لَكِنْ لِغَرَضِ أَنْ يَجُرَّهُ مِنْهُ إِلَى الشَّرِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنْوَاعٍ: إِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ إِلَى الْفَاضِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى الشَّرِّ، وَإِمَّا أَنْ يَجُرَّهُ مِنَ الْفَاضِلِ الْأَسْهَلِ إِلَى الْأَفْضَلِ الْأَشَقِّ لِيَصِيرَ ازْدِيَادُ الْمَشَقَّةِ سَبَبًا لِحُصُولِ النُّفْرَةِ عَنِ الطَّاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ بل
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute