للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى التَّعْيِينِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْقِصَاصُ مُتَعَيِّنًا، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْعُدُولِ إِلَى الدِّيَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الدِّيَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَابِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَاعَى جِهَةُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَتَلَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ قُطِعَتْ يَدُ الْقَاتِلِ فَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا/ حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْرِقَ الْأَوَّلُ بِالنَّارِ أُحْرِقَ الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَإِلَّا حُزَّتْ رَقَبَتُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ تَنَاوُلُ النَّفْسِ بِأَرْجَى مَا يُمْكِنُ فَعَلَى هَذَا لَا اقْتِصَاصَ إِلَّا بِالسَّيْفِ بِحَزِّ الرَّقَبَةِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّسْوِيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُتِبَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْقَتْلَى إِلَّا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَدَخَلَ هَذَا عَلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْقَتْلِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ النَّصِّ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَلَوْ حَكَمْنَا فِيهَا بِالْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً، لَكِنَّهَا بِمَا صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالتَّخْصِيصُ أَهْوَنُ مِنَ الْإِجْمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَوْ لَمْ تُفِدْ إِلَّا الْإِيجَابَ لِلتَّسْوِيَةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا شَيْئَيْنِ إِلَّا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجوب التَّسْوِيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا النَّصُّ بِسَائِرِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غَافِرٍ: ٤٠] ثُمَّ تَأَكَّدَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ

بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ»

وَمِمَّا

يُرْوَى أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ صَبِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ فَقَتَلَهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْضَخَ رَأْسُ الْيَهُودِيِّ بِالْحِجَارَةِ،

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَلَغَتْ دَلَالَةُ الْآيَةِ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَمَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَبْلَغًا قَوِيًّا، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ»

وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا»

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمَّا تَعَارَضَتْ بَقِيَتْ دَلَالَةُ الْآيَاتِ خَالِيَةً عَنِ الْمُعَارَضَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَائِبًا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: ٢٥] وَإِذَا صَارَتِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى التَّائِبُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ،

وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ»

فَثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ التَّائِبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً ثُمَّ عِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيَكُونَ لُطْفًا بِهِ ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا تَكَلُّفَ بَعْدَ الْقَتْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَتْلُ لُطْفًا بِهِ؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ التَّشَفِّي وَمَنْفَعَةٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ يَزْجُرُ سَائِرَ النَّاسِ عَنِ الْقَتْلِ، وَمَنْفَعَةٌ لِلْقَاتِلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْتَلَ صَارَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ وَالتَّمَرُّدِ.

/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَفِيهِ قَوْلَانِ: