زَائِدٌ عَلَيْهِ فِي الشَّرَفِ وَفِي أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَذَا النَّصِّ فِي قَتْلِ الْعَالِمِ بِالْجَاهِلِ وَالشَّرِيفِ بِالْخَسِيسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، هَذَا خَاصٌّ وَمَا قَبْلَهُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْخَاصُّ مُتَّصِلًا بِالْعَامِّ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعَامِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ مَا
نَقَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ هِيَ الَّتِي يُكْتَفَى فِيهَا بِالْقِصَاصِ، أَمَّا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاقِعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهُنَاكَ لَا يُكْتَفَى بِالْقِصَاصِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاجُعِ،
وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّظَرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ وَلَا تَرَاجُعَ، فَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَلَا تَرَاجُعَ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ نِهَايَةُ مَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ غَيْرِهِ مَعَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:
مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَافِيًا ومعفوا عنه، وليس هاهنا إِلَّا وَلِيُّ الدَّمِ وَالْقَاتِلُ، فَيَكُونُ الْعَافِي أَحَدَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَفْوِ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنَ الْوَلِيِّ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى القتل، فصار تقدير الآية: فإذا عفي وَلِيُّ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ، وَقَوْلُهُ: شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِذَا حَصَلَ الْعَفْوُ لِلْقَاتِلِ عَنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ الْعَافِيَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ مَالًا بِإِحْسَانٍ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجِبُ أَدَاءُ غَيْرِ الدِّيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ/ ذَلِكَ الْوَاجِبُ هُوَ الدِّيَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا عِنْدَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
أَيْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لَكُمْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْيَهُودِ حَتْمُ الْقِصَاصِ وَالْحُكْمَ فِي النَّصَارَى حتم العفو فخف عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَعَ لَهُمُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ قَدْ تَكُونُ الدِّيَةُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَوَدِ إدا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَوَدُ آثَرَ إِذَا كَانَ رَاغِبًا فِي التَّشَفِّي وَدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَعَلَ الْخِيَرَةَ لَهُ فِيمَا أَحَبَّهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَافِيَ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ وَقَوْلُهُ الْعَفْوُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِوَلِيِّ الدَّمِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أَيْ فَمَنْ سَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، يُقَالُ: أَتَانِي هَذَا الْمَالُ عَفْوًا صَفْوًا، أَيْ سَهْلًا، وَيُقَالُ: خُذْ مَا عَفَا، أَيْ مَا سَهُلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ وَسَهُلَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ الَّذِي هُوَ الْقَاتِلُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ فَلْيَتْبَعْ وَلِيُّ الدَّمِ ذَلِكَ الْقَاتِلَ فِي مُطَالَبَةِ ذَلِكَ الْمَالِ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ ذَلِكَ الْمَالَ بالإحسان من
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute