اللَّهُ عَنْكَ
[التَّوْبَةِ: ٤٣] فَإِذَا تَعَدَّى إِلَى الذَّنْبِ قِيلَ: عَفَوْتُ عَنْ فُلَانٍ عَمَّا جَنَى، كَمَا تَقُولُ: عَفَوْتُ لَهُ عَنْ ذَنْبِهِ، وَتَجَاوَزْتُ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجِنَايَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: لِمَ قِيلَ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ؟
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُشْكِلُ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لَيْسَ إِلَّا الْقَوَدَ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ: الْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: شَيْءٌ فَائِدَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ إِمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الْمَالُ كَانَ مَجْمُوعُ حَقِّهِ مُتَبَعِّضًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ تَنْكِيرَ الشَّيْءِ يُفِيدُ فَائِدَةً عَظِيمَةً، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَفْوَ لَا يُؤَثِّرُ/ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَفْوًا عَنْ جَمِيعِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ جُزْئِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ كُلِّهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ حَقِّهِ، كَعَفْوِ جَمِيعِهِمْ عَنْ خَلْقِهِمْ، فَلَوْ عَرَّفَ الشَّيْءَ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَكَّرَهُ صَارَ هَذَا الْمَعْنَى مَفْهُومًا مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: بِأَيِّ مَعْنًى أَثْبَتَ اللَّهُ وَصْفَ الْأُخُوَّةِ.
وَالْجَوَابُ: قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ تَكُونُ بِسَبَبِ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٥] فَلَوْلَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَاقٍ مَعَ الْفِسْقِ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَتِ الْأُخُوَّةُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالنَّدْبُ إِلَى الْعَفْوِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى هُمُ الْأَئِمَّةُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ هُمُ الْقَاتِلُونَ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَاتِلَ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ مُؤْمِنًا، فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ يَتُوبُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُؤْمِنًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ فِيهِ غَيْرَ التَّائِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ذِكْرُ الْأُخُوَّةِ، فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ وَالثَّانِي: الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاسِقَ يَتُوبُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ أَخًا لَهُ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُهُ أَخًا لَهُ فِي النَّسَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: ٦٥] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ وَلِيِّ الدَّمِ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ تَعَلُّقٌ وَاخْتِصَاصٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأُخُوَّةِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ، قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَدْنَى تَعَلُّقٍ وَالْخَامِسُ: ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْأُخُوَّةِ لِيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنْسِيَّةِ فِي الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِقَادِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِأَسْرِهَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْأُخُوَّةِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْأُخُوَّةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ فَفِيهِ أبحاث:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute