هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ والاسم فِي الْوَصِيَّةِ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلِ الْوَصِيُّ وَالشَّاهِدُ أَوْلَى بِالدُّخُولِ تَحْتَ هَذَا التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِهِمْ تَثْبُتَ الْوَصِيَّةُ فَكَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا أَشَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ فَمَا ذَلِكَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ؟
وَجَوَابُهُ: أَنْ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ مُوصٍ دَلَّ عَلَى مَنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فَصَلَحَ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَقَالَ الْقَائِلُونَ: الْمُرَادُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُوصِي فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْمُصْلِحُ يُصْلِحُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَالْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُوصِي إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ لَا يَدْخُلُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالرِّضَا صَارَ ذِكْرُهُ كَلَا ذِكْرٍ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِهِ إِلَى إِصْلَاحٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بيان كيفية هذا الإصلاح وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، فَنَقُولُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ كَانَ إِمَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ بِعُدُولٍ فَإِصْلَاحُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِإِزَالَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَرَدِّ كُلِّ حَقٍّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ هَذِهِ الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم هاهنا يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَاوِلُ مَنْعَ وُصُولِ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ، إِمَّا بِذِكْرِ إِقْرَارٍ، أَوْ بِالْتِزَامِ عَقْدٍ، فَهَهُنَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ لِلْأَبَاعِدِ وَفِي الْأَقَارِبِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمُصْلِحُ قَدْ أَتَى بِطَاعَةٍ عَظِيمَةٍ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ وَهُوَ/ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِثْمَ الْمُبَدِّلِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يَنْقُصُ الْوَصَايَا وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُوهِمُ فِيهِ إِثْمًا أَزَالَ الشُّبْهَةَ وَقَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: بَيَّنَ أَنَّ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَتَحَتَّمُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَتَى غَيَّرَ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ خَالَفَ الْوَصِيَّةَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي وَصَرْفٌ لِمَالِهِ عَمَّنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ كَرِهَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ الْقُبْحَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ وَيَخَافُ فِيهِ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُصْلِحِ فِي هَذَا الْجِنْسِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ فِي الْإِصْلَاحِ جَمِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشرع.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute