للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] وَتَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ وَاقِعَةً بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الصَّوْمِ بِمُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطَاوِلَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمُدَّتَانِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَيَكُونُ المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه إيانا أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا مَا كَانَ إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً لَا تَشْتَدُّ مَشَقَّتُهَا، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِكَوْنِهِ تَعَالَى رَحِيمًا بِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمُسَهِّلًا أَمْرَ التَّكَالِيفِ عَلَى كُلِّ الْأُمَمِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْأَصِحَّاءَ الْمُقِيمِينَ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَهُ تَأْخِيرُ الصَّوْمِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى أَيَّامٍ أُخَرَ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: انْظُرُوا إِلَى عَجِيبِ مَا نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ أُسْوَةً بِالْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأُمُورَ الشَّاقَّةَ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ، ثُمَّ ثَانِيًا بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ التَّقْوَى، فَلَوْ لَمْ يَفْرِضِ الصَّوْمَ لَفَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الشَّرِيفُ، ثُمَّ ثَالِثًا: بَيَّنَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ أَبَدًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ بَيَّنَ رَابِعًا: أَنَّهُ خَصَّهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِالشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الشُّهُورِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ خَامِسًا: إِزَالَةَ الْمَشَقَّةِ فِي إِلْزَامِهِ فَأَبَاحَ تَأْخِيرَهُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَرْضَى إِلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالسُّكُونِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَاعَى فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ هَذِهِ/ الْوُجُوهَ مِنَ الرَّحْمَةِ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ كَثِيرًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً إِلَى قَوْلِهِ: أُخَرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ، وَإِذَا قَدَّرْتَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانَ الِاسْتِقْبَالَ لَا الْمَاضِيَ، كَمَا تَقُولُ: مَنْ أَتَانِي أَتَيْتُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْحَيِّ بِالْحَالَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصُدُورِ أَفْعَالِهِ سَلِيمَةً سَلَامَةً تَلِيقُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَيَّ مَرِيضٍ كَانَ، وَأَيَّ مُسَافِرٍ كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ تَنْزِيلًا لِلَفْظِهِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَقَلِّ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، يُرْوَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَاعْتَلَّ بِوَجَعِ أُصْبُعِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَرِيضِ الَّذِي لَوْ صَامَ لَوَقَعَ فِي مَشَقَّةٍ وَجُهْدٍ، وَبِالْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَرَضَ الْمُبِيحَ لِلْفِطْرِ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرِ النَّفْسِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْعِلَّةِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْفِعْلِ بَيْنَ مَا يُخَافُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَا يُخَافُ مِنْهُ كَالْمَحْمُومِ إِذَا خَافَ أَنَّهُ لَوْ صَامَ تَشْتَدُّ حُمَّاهُ، وَصَاحِبُ وَجَعِ الْعَيْنِ يَخَافُ إِنْ صَامَ أَنْ يَشْتَدَّ وَجَعُ عَيْنِهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَرَضٍ مُرَخِّصٍ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِي الْأَمْرَاضِ مَا يَنْقُصُهُ الصَّوْمُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ مِنْهُ مَا يُؤَثِّرُ الصَّوْمُ فِي تَقْوِيَتِهِ، ثُمَّ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ فِيمَنْ لَيْسَ بِمَرِيضٍ أَيْضًا، فَإِذَنْ يَجِبُ فِي تَأْثِيرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّفَرِ مِنَ الْكَشْفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالْمِسْفَرَةُ الْمِكْنَسَةُ، لِأَنَّهَا تُسْفِرُ التُّرَابَ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّفِيرُ الدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلصُّلْحِ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ الْمَكْرُوهَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِمَا، وَالْمُسْفِرُ الْمُضِيءُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ وَالسِّفْرُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنِ الْمَعَانِي