للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النَّسْخَ كُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ كَانَ أَوْلَى فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرَ جَائِزٍ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَاسِخَهَا آيَةُ شُهُودِ الشَّهْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ تِلْكَ الْآيَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِهَذَا لَمَا كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ أَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، وَرَفَعَ وَجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، فَكَانَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْيُسْرِ وَإِثْبَاتًا لِلْعُسْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.

وَاحْتَجَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَسَادِ قَوْلِ الْأَصَمِّ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْأَصَمِّ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ هُمَا اللَّذَانِ لَا يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمُ الْبَتَّةَ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ اللَّذَانِ يُمْكِنُهُمَا الصَّوْمَ، فَكَانَتِ الْمُغَايَرَةُ حَاصِلَةً فَثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصَمُّ لَيْسَ بِضَعِيفٍ، أَمَّا إِذَا وَافَقْنَا الْجُمْهُورَ وَسَلَّمْنَا فَسَادَهُ بَقِيَ الْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرَمُ لَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرَمِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَوْ تَحَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَشَقَّ كَانَتْ أَكْثَرَ ثَوَابًا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِدْيَةُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ طَعَامِ بِالْكَسْرِ مُضَافًا إِلَيْهِ مَسَاكِينَ جَمْعًا، وَالْبَاقُونَ فِدْيَةٌ مُنَوَّنَةٌ طَعامُ بِالرَّفْعِ مِسْكِينٍ مَخْفُوضٌ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَفِيهَا بَحْثَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا مَعْنَى إِضَافَةُ فِدْيَةٍ إِلَى طَعَامٍ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَهَا ذَاتٌ وَصِفَتُهَا أَنَّهَا طَعَامٌ، فَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَمْقَاءِ وَالثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفِدْيَةُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَالطَّعَامُ اسْمٌ يَعُمُّ الْفِدْيَةَ وَغَيْرَهَا، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنَ الْإِضَافَةِ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى «مِنْ» كَقَوْلِكَ: ثَوْبُ خَزٍّ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ، وَالْمَعْنَى: ثَوْبٌ مِنْ خَزٍّ وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فكذا هاهنا التَّقْدِيرُ: فِدْيَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَأُضِيفَتِ الْفِدْيَةُ إِلَى الطَّعَامِ مَعَ أَنَّكَ تُطْلِقُ عَلَى الْفِدْيَةِ اسْمَ الطَّعَامِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمَعُوا الْمَسَاكِينَ لِأَنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ جَمَاعَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ مِسْكِينٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ فِدْيَةٌ بِالتَّنْوِينِ فَجَعَلُوا مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرًا لَهُ وَوَحَّدُوا الْمِسْكِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفِدْيَةُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْبَدَلِ الْقَائِمِ عَلَى الشَّيْءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُدَّانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدٌّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الفعل