للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَانَ اعْتِكَافُهُ بَاطِلًا لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا تَرْكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِذَا تَرَكَ النِّيَّةَ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ يُوجِبُ الصَّوْمَ لَمَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ، لَأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مُوجِبُهُ إِمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبِ الشَّهْرِ لَا بِسَبَبِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ صَوْمٌ آخَرُ سِوَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَحَيْثُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي رَمَضَانَ، عَلِمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُوجِبُهُ الِاعْتِكَافُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُقَارَنًا بِالصَّوْمِ لَخَرَجَ الصَّائِمُ بِاللَّيْلِ عَنِ الِاعْتِكَافِ لِخُرُوجِهِ فِيهِ عَنِ الصَّوْمِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَجُوزُ مُفْرَدًا أَبَدًا بِدُونِ الصَّوْمِ وَالثَّالِثُ: مَا

رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ الله لَيْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَقْدِيرَ لِزَمَانِ الِاعْتِكَافِ فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ/ سَاعَةٍ يَنْعَقِدُ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُطْلَقًا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِاعْتِكَافِهِ سَاعَةً، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مُطْلَقًا تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجَوِّزُ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ تَقْدِيرُ الِاعْتِكَافِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَوَجَبَ تَرْكُ التَّقْدِيرِ وَالرُّجُوعُ إِلَى أَقَلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُعْتَكِفُ عَمَّنْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: تِلْكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى حُكْمِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ الْحُدُودَ جَمْعٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ آيَةِ الصوم إلى هاهنا عَلَى مَا سَبَقَ شَرْحُ مَسَائِلِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَاهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ مَحْدُودٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنِ الرِّزْقِ وَيُقَالُ لِلْبَوَّابِ: حَدَّادٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ وَحَدُّ الدَّارِ مَا يَمْنَعُ غَيْرَهَا مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَحُدُودُ اللَّهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ الْكَلَامَ الْجَامِعَ الْمَانِعَ: حَدًّا، وَسُمِّيَ الْحَدِيدُ: حَدِيدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ إِذَا عَرَفْتَ الِاشْتِقَاقَ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ مَحْدُودَاتُهُ أَيْ مَقْدُورَاتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطَةٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَقْرَبُوها فَفِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَالْأُمُورُ الْمُتَقَدِّمَةُ بَعْضُهَا إِبَاحَةٌ وَبَعْضُهَا حَظْرٌ فَكَيْفَ قَالَ فِي الْكُلِّ فَلا تَقْرَبُوها وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النِّسَاءِ: ١٤] وَقَالَ هاهنا: فَلا تَقْرَبُوها فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَالْأَقْوَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي حَيِّزِ الْحَقِّ، فَنُهِيَ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّ مَنْ تَعَدَّاهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ، ثُمَّ بُولِغَ فِي ذَلِكَ فَنُهِيَ أن