للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَمَّا الشَّهْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوْرَةِ الْقَمَرِ فِي فَلَكِهِ الْخَاصِّ وَزَعَمُوا أَنَّ نُورَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّمْسِ وَأَبَدًا يَكُونُ أَحَدُ نِصْفَيْهِ مُضِيئًا بِالتَّمَامِ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَكُونُ النِّصْفُ الْمُضِيءُ هُوَ النِّصْفُ الْفَوْقَانِيُّ فَلَا جَرَمَ نَحْنُ لَا نَرَى مِنْ نُورِهِ شَيْئًا وَعِنْدَ الِاسْتِقْبَالِ يَكُونُ نِصْفُهُ الْمُضِيءُ مُوَاجِهًا لَنَا فَلَا جَرَمَ نَرَاهُ مُسْتَنِيرًا بِالتَّمَامِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَمَرُ أَقْرَبَ إِلَى الشَّمْسِ، كَانَ الْمَرْئِيُّ مِنْ نَصْفِهِ الْمُضِيءِ أَقَلَّ وَكُلَّمَا كَانَ أَبْعَدَ كَانَ الْمَرْئِيُّ مِنْ نَصْفِهِ الْمُضِيءِ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ مِنْ وَقْتِ الِاجْتِمَاعِ إِلَى وَقْتِ الِانْفِصَالِ يَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَبْعَدَ مِنَ الشَّمْسِ، وَيُرَى كُلَّ لَيْلَةٍ ضَوْءُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى وَقْتِ الِاجْتِمَاعِ، وَيَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَقْرَبَ إِلَى الشَّمْسِ، فَلَا جرم يرى كل ليلة ضوءه أَقَلَّ، وَلَا يَزَالُ يَقِلُّ وَيَقِلُّ: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: ٣٩] فَهَذَا مَا قَالَهُ أَصْحَابُ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ.

وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ فَهُوَ أَنَّ الْقَمَرَ جِسْمٌ، وَالْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُتَسَاوِيَةُ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُهَا فِي اللَّوَازِمِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ فَإِذَنْ حُصُولُ الضَّوْءِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَمْرٌ جَائِزٌ أَنْ يَحْصُلَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ وَعَلَى إعدامه، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إِلَى إِسْنَادِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي نُورِ الْقَمَرِ إِلَى قُرْبِهَا وَبُعْدِهَا مِنَ الشَّمْسِ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ حُصُولَ النُّورِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِيجَادِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَكَذَا الذي في جرم القمر.

بقي هاهنا أَنْ يُقَالَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَ خَصَّصَ الْقَمَرَ دُونَ الشَّمْسِ بِهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَنَقُولُ لِعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِغَرَضٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ عَاجِزٌ وَثَانِيهَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا وُجُودِهِ فَهُوَ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ، مُسْتَكْمَلٌ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى لَهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لو كان فعله مُعَلَّلًا بِغَرَضٍ فَذَلِكَ الْغَرَضُ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِحْدَاثُهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْفِعْلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِهِ وأحكامه ألبتة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] .

وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ سَلَّمُوا أَنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ قَاصِرَةٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى أَسْرَارِ/ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وهو قَوْلُهُ:

وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] وَقَالَ فِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الْإِسْرَاءِ: ١٢] وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الزَّمَانِ بِالشُّهُورِ فِيهِ مَنَافِعُ بَعْضُهَا مُتَّصِلٌ بِالدِّينِ وَبَعْضُهَا بِالدُّنْيَا، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالدِّينِ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّوْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَثَانِيهَا: الْحَجُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَثَالِثُهَا: عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ