تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَوْنِهِ مِيقَاتًا فَكَانَ هَذَا الِاقْتِصَارُ دَلِيلًا عَلَى الْفَصَاحَةِ الْعَظِيمَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحَجِّ فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ وَلِلْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣] أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِفْرَادُ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ مَوَاقِيتَ الْحَجِّ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»
وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ أَنَّ إِفْرَادَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْحَجِّ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ إِلَى أَشْهُرٍ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي النَّسِيءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا هَمَّ بِشَيْءٍ فَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ مِنْ بَابِهِ بَلْ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ وَيَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حَوْلًا كَامِلًا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ تَطَيُّرًا، وَعَلَى هَذَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّرِ، لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَلَمْ/ يَتَّقِ غَيْرَهُ وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا كَانَ يَتَطَيَّرُ بِهِ، بَلْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّقَاهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ لِتَفُوزُوا بِالْخَيْرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَقَوْلِهِ:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: ٢، ٣] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطَّلَاقِ: ٤] وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَنْ رَجَعَ خَائِبًا يُقَالُ: مَا أَفْلَحَ وَمَا أَنْجَحَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَاحُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ حَتَّى تَصِيرُوا مُفْلِحِينَ مُنْجِحِينَ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ،
وَقَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ»
وَقَالَ مَنْ «رَدَّهُ عَنْ سَفَرِهِ تَطِيرٌ فَقَدْ أَشْرَكَ»
أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَقَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النَّمْلِ: ٤٧] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، رُوِيَ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ نَقَبَ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَتَّخِذُ سُلَّمًا يَصْعَدُ مِنْهُ سَطْحَ دَارِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخِبَاءِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرُّ بِتَحَرُّجِكُمْ عَنْ دُخُولِ الْبَابِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ
أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ نَقَبَ خَلْفَ بَيْتِهِ أَوْ خَيْمَتِهِ نَقْبًا مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ إِلَّا الْحُمْسُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَثَقِيفٌ وَخَيْثَمُ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهَؤُلَاءِ سُمُّوا حُمْسًا لِتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، الْحَمَاسَةُ الشِّدَّةُ، وَهَؤُلَاءِ مَتَى أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا يَسْتَظِلُّونَ الْوَبَرَ وَلَا يَأْكُلُونَ السَّمْنَ وَالْأَقِطَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُحْرِمًا وَرَجُلٌ آخَرُ كَانَ مُحْرِمًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا مِنْ بَابِ بُسْتَانٍ قَدْ خَرِبَ فَأَبْصَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُحْرِمًا فَاتَّبَعَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَنَحَّ عَنِّي، قَالَ:
وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: دَخَلْتَ الْبَابَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُ بِسُنَّتِكَ وَهَدْيِكَ وَقَدْ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ فَدَخَلْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِحْرَامِ لَيْسَ بِبِرٍّ وَلَكِنَّ البر من