للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْعٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ قَصْدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ حَتَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْمَرَضُ لَيْسَ كَالْعَدُوِّ، وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَحَلُّلِهِ وَرُجُوعِهِ أَمْنًا مِنْ مَرَضِهِ، أَمَّا الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّهُ خَائِفٌ مِنَ الْقَتْلِ إِنْ أَقَامَ، فَإِذَا رَجَعَ فَقَدْ تَخَلَّصَ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالتَّفْسِيرِ أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٤] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، وَفِيهَا إِضْمَارٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَلَامٌ غَيْرُ تَامٍّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: مَحَلُّ، مَا: رَفْعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ نَصَبْتَ عَلَى مَعْنَى: اهْدُوا مَا تَيَسَّرَ كَانَ صَوَابًا، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَشْبَاهِهِ مَرْفُوعٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَيْسَرَ بِمَعْنَى تَيَسَّرَ، وَمِثْلُهُ: اسْتَعْظَمَ، أَيْ تَعَظَّمَ وَاسْتَكْبَرَ: أَيْ تَكَبَّرَ، وَاسْتَصْعَبَ:

أَيْ تَصَعَّبَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَدْيِ جَمْعُ هَدْيَةٍ، كَمَا تَقُولُ: تَمْرٌ وَتَمْرَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ الْهَدْيِ وَتَمِيمٌ تُثَقِّلُهُ، فَيَقُولُونَ: هَدِيَّةٌ، وَهَدِيٌّ وَمَطِيَّةٌ، وَمَطِيٌّ، قَالَ الشَّاعِرُ:

حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ

وَمَعْنَى الْهَدْيِ: مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ يُهْدِيهَا الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْهَدْيُ أَعْلَاهُ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وَأَخَسُّهُ شَاةٌ، فَعَلَيْهِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْهَدْيِ، هَلْ لَهُ بَدَلٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ؟ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، / وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْصَرِ الْهَدْيَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَا أَثْبَتَ لَهُ بَدَلًا وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ بَدَلًا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ أَوْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ لِلْمَشَقَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي فَفِيهِ اخْتِلَافَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَقْرَبُهَا أَنْ يُقَالَ: يَقُومُ الْهَدْيُ بِالدَّرَاهِمِ وَيُشْتَرَى بِهَا طَعَامٌ وَيُؤَدَّى، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْهَدْيِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ وَذَبَحَ، وَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَتَحَلَّلَ الْبَتَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعُمْرَةِ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا حُكْمُهَا فِي الْإِحْصَارِ كَحُكْمِ الْحَجِّ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا.