الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ:
٣٣] وَفِي قَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: ٩٥] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحَرَمُ فَإِنَّ الْبَيْتَ عَيْنَهُ لَا يُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ.
جَوَابُهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي مَالِهِ مِنْ بَدَنَةٍ وَجَزَاءِ هَدْيٍ فَلَا يُجْزِي إِلَّا فِي الْحَرَمِ لِمَسَاكِينِ أَهْلِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطَفَ فِي طَرِيقِهِ ذَبَحَهُ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَالثَّانِي: دَمُ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ حَيْثُ حُبِسَ، فَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الثَّالِثُ: قَالُوا: الْهَدْيُ سُمِّيَ هَدْيًا لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، وَالْهَدِيَّةُ لَا تَكُونُ هَدِيَّةً إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا الْمُهْدِي إِلَى دَارِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِجَعْلِ مَوْضِعِ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ.
جَوَابُهُ: هَذَا التَّمَسُّكُ بِالِاسْمِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الرَّابِعُ: أَنَّ سَائِرَ دِمَاءِ الْحَجِّ كُلِّهَا قُرْبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَكَذَا هَذَا.
جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ وَزَوَالُ الْخَوْفِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ أُحْصِرَ، أَمَّا لَوْ وَجَبَ إِرْسَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فَيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُنَاجُوا الرَّسُولَ إلا بعد تقديم الصدقة. فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ،
قَالَ كَعْبٌ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ فِي شَعْرِ رَأْسِي كَثِيرٌ مِنَ الْقَمْلِ وَالصِّئْبَانِ وَهُوَ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ احْلِقْ رَأْسَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا تَأَذَّى بِالْمَرَضِ أَوْ بِهَوَامِّ رَأْسِهِ أُبِيحَ لَهُ الْمُدَاوَاةُ وَالْحَلْقُ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِدْيَةٌ رُفِعَ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحْصَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ رُبَّمَا لَحِقَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ إِنْ صَبَرَ فَاللَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِشَرْطِ بَذْلِ الْفِدْيَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ لِكُلِّ مُحْرِمٍ لَحِقَهُ الْمَرَضُ فِي بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى عِلَاجٍ أَوْ لَحِقَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ.