فَذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَشَرَحَ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ بِكُلِّ ذَلِكَ أَنْ يَبْعَثَ الْعِبَادَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْحَسَنَةِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاءُ الْأُمُورِ عَنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا/ الْأَوَّلُونَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ:
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا حَسَنَ الْعَلَانِيَةِ خَبِيثَ الْبَاطِنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَقَتَلَ الْحُمُرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ هُوَ أَنَّ الْأَخْنَسَ أَشَارَ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ بِالرُّجُوعِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَإِنْ يَكُ كَاذِبًا كَفَاكُمُوهُ سَائِرُ النَّاسِ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ قَالُوا: نِعْمَ الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَإِذَا نُودِيَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ فَإِنِّي أَتَخَنَّسُ بِكُمْ فَاتَّبِعُونِي ثُمَّ خَنَسَ بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَنْ قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسُمِّيَ لِهَذَا السَّبَبِ أَخْنَسَ، وَكَانَ اسْمُهُ: أُبَيَّ بْنَ شَرِيقٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا يَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ أَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ بَعَثُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا فَابْعَثْ إِلَيْنَا نَفَرًا مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَنَزَلُوا بِبَطْنِ الرَّجِيعِ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَرَكِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَاكِبًا وَأَحَاطُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ وَصَلَبُوهُمْ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَلِذَلِكَ عَقَبَهُ مِنْ بَعْدُ بِذِكْرِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ إِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ فِيمَنْ ذَكَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَيَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعَ، وَقَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ جَمْعٌ وَأَمَّا نُزُولُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْعُمُومِ، بَلْ نَقُولُ: فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، فَلَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا وَوَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِتِلْكَ الْمَذَمَّةِ هُوَ تِلْكَ الصِّفَاتُ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ/ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ زَجْرًا لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمَذْمُومَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وَأَمَّا إِذَا خَصَصْنَاهُ بِذَلِكَ الشَّخْصِ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بهذه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute