للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْحَرَامِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَعْظِمِينَ لِلْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا:

كَالْآخَرِ فِي الْقُبْحِ عِنْدَ الْقَوْمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ جَمَعُوهُمَا فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا.

قُلْنَا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كُفْرًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ قِتَالًا وَاحِدًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كُفْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ قِتَالٍ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنَ الْكُفْرِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ هُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّحَابَةُ، وَإِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِذْلَالِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كُفْرٌ وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا فَهُوَ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ جرم سابق وعرض لا حق وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ ظُلْمًا وَكُفْرًا، أَكْبَرُ وَأَقْبَحُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا يَكُونُ كُفْرًا وَحْدَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَقْرِيرِ قول الفراء.

الوجه الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ قِتَالًا فِيهِ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا الْخَفْضُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَهُوَ وَاوُ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ مَا أَقَامُوا لِهَذَا الْقَوْلِ وَزْنًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَدٌّ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَانِيهَا: صَدٌّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: / صَدٌّ الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ عُمْرَةِ الْبَيْتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الرِّوَايَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَقِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ كَالْوَاقِعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَهُوَ الْكُفْرُ بِكَوْنِهِ مُرْسِلًا لِلرُّسُلِ، مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:

وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَإِنْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَكُفْرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ مَنْعُ النَّاسِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَالطَّوَافِ بِهِ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا هُوَ السَّبَبُ فِي فَضِيلَتِهِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى: وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَدُّوا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعَ السُّجُودَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ، بَلْ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَهْلًا لَهُ إِذْ كَانُوا هُمُ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْبَيْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الْفَتْحِ: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَالِ: ٣٤] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا بِشِرْكِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَكَمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا أَكْبَرُ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرٌ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقِتَالِ وَالثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهُوَ مَا كَانَ قَاطِعًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ قَاطِعُونَ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرَ.