للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْفِتْنَةِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: هِيَ الْكُفْرُ وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُفْرٌ بِهِ ... أَكْبَرُ فَحَمْلُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ تَكْرَارًا، بَلْ هَذَا التَّأْوِيلُ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، تَارَةً بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَارَةً بِالتَّعْذِيبِ، كَفِعْلِهِمْ بِبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِتْنَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِامْتِحَانِ، يُقَالُ فَتَنْتَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا أَدْخَلْتَهُ فِيهَا لِتُزِيلَ الْغِشَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

[التَّغَابُنِ: ١٥] أَيِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَفَكَّرَ فِي وَلَدِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ/ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ١، ٢] أَيْ لَا يُمْتَحَنُونَ فِي دِينِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَقَالَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طَهَ: ٤٠] وَإِنَّمَا هُوَ الِامْتِحَانُ بِالْبَلْوَى، وَقَالَ:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٠] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [الْبُرُوجِ: ١٠] وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ آذُوهُمْ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى الْعَذَابِ لِيَمْتَحِنُوا ثَبَاتَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاءِ: ١٠١] وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ١٦٢، ١٦٣] وَقَالَ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] أَيِ الْمِحْنَةِ فِي الدِّينِ وَقَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْمَائِدَةِ: ٤٩] وَقَالَ: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: ٥] وَقَالَ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يُونُسَ: ٨٥] وَالْمَعْنَى أَنْ يُفْتَنُوا بِهَا عَنْ دِينِهِمْ فَيَتَزَيَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الكفر والظلم وقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَمِ: ٥، ٦] قِيلَ: الْمَفْتُونُ الْمَجْنُونُ، وَالْجُنُونُ فِتْنَةٌ، إِذْ هُوَ مِحْنَةٌ وَعُدُولٌ عَنْ سَبِيلِ أَهْلِ السَّلَامَةِ فِي الْعُقُولِ.

فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِامْتِحَانُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ عَنِ الدِّينِ تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ الْكَثِيرِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، فَصَحَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ الْقَتْلِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَهُوَ قَتْلُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ.

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ صَاحِبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إِلَى مُؤْمِنِي مَكَّةَ: إِذَا عَيَّرَكُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَيِّرُوهُمْ أَنْتُمْ بِالْكُفْرِ وَإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ

قَالَ: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٢٠] .

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا زَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ كَذَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا فِعْلٌ لَا مَصْدَرَ لَهُ، وَلَا يُقَالُ مِنْهُ: فَاعِلٌ وَلَا مَفْعُولٌ، وَمِثَالُهُ فِي الْأَفْعَالِ كَثِيرٌ نَحْوُ عَسَى لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ وَلَا مُضَارِعٌ وَكَذَلِكَ: ذُو، وَمَا فَتِئَ، وَهَلُمَّ، وَهَاكَ، وَهَاتِ، وَتَعَالَ، ومعنى: لا يَزالُونَ أَيْ يَدُومُونَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الزَّوَالَ يُفِيدُ النَّفْيَ