الْعَقْدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ»
وَقَفَ النِّكَاحَ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، وَالْمُتَوَقِّفُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَالثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ»
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ كَالْمُقَابِلِ لِلسِّفَاحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السِّفَاحَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَطْءِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ اسْمًا لِلْوَطْءِ لَامْتَنَعَ كَوْنُ النِّكَاحِ مُقَابِلًا لِلسِّفَاحِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النُّورِ: ٣٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ أَنْكِحُوا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْعَقْدِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ الْأَعْشَى، أَنْشَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» :
فَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حرام فانكحن أو تأيما
وقوله: فَانْكِحُوهُنَّ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْأَمْرَ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّهُ
قَالَ: «لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً»
يَعْنِي مُقَارَبَتَهَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْرُمُ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ وَإِلَّا فَتَأَيَّمْ وَتَجَنَّبِ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] نَفْيُ الْحِلِّ مُمْتَدٌّ إِلَى غَايَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَنْتَهِي بِهِ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْوَطْءَ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ وَنَاكِحُ الْبَهِيمَةِ مَلْعُونٌ»
أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ عَدَمِ الْعَقْدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ وَالْوَطْءِ، يُقَالُ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا، وَنَكَحَ النُّعَاسُ عَيْنَهُ، وَفِي المثل أنكحنا الفرا فسترى، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي:
أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ ... تَعَثَّرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى الضَّمِّ وَالْوَطْءِ فِي الْمُبَاشَرَةِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:
النِّكَاحُ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَاصِلٌ فِي الْعَقْدِ وَفِي الْوَطْءِ، فَيَحْسُنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِمَا جَمِيعًا، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَكَحَ الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَرْقًا لَطِيفًا حَتَّى لَا يَحْصُلَ الِالْتِبَاسُ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً: أَرَادُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَعَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، لَمْ يُرِيدُوا غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَحْتَمِلِ الْكَلِمَةُ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ، فَهَذَا تَمَامُ مَا فِي هَذَا/ اللَّفْظِ مِنَ الْبَحْثِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَلا تَنْكِحُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التَّوْبَةِ: ٣١] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أن اليهودي والنصراني مشرك وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ قَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ فَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لَيْسَ بِشِرْكٍ لَوَجَبَ