بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ كُفْرَهُمَا شِرْكٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَةِ: ٧٣] فَهَذَا التَّثْلِيثُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُودَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُودَ ذَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ قَادِرًا وَمِنْ كَوْنِهِ حَيًّا، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتُ الثَّلَاثَةُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهَا، كَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ مِنْ ضَرُورَاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَكْفِيرُ النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَفَّرَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَوَاتًا ثَلَاثَةً قَدِيمَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا فِي أُقْنُومِ الْكَلِمَةِ أَنْ يَحِلَّ فِي عِيسَى، وَجَوَّزُوا فِي أُقْنُومِ الْحَيَاةِ أَنْ يَحِلَّ فِي مَرْيَمَ وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُسَمَّاةَ عِنْدَهُمْ بِالْأَقَانِيمِ ذَوَاتٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، لَمَّا جَوَّزُوا عَلَيْهَا الِانْتِقَالَ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ ذَوَاتٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَهَذَا شِرْكٌ، وَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ الْآلِهَةِ، فَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ كَذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّرَ أَمِيرًا وَقَالَ: إِذَا لَقِيتَ عَدَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ،
سَمَّى مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ بِالْمُشْرِكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسَمَّى بِالْمُشْرِكِ وَخَامِسُهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ جَحَدَ رِسَالَتَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَكَانُوا مُنْكِرِينَ صُدُورَهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا يُضِيفُونَهَا إِلَى الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهَا: إِنَّهَا سِحْرٌ وَحَصَلَتْ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَالْقَوْمُ قَدْ أَثْبَتُوا شَرِيكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِلَهِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي فَقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا سَلَّمَ الْيَهُودِيُّ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ من الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، أَمَّا إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُشْرِكًا، كَمَا أَنَّ إِنْسَانًا لَوْ قَالَ: إِنَّ خَلْقَ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِ الْبَشَرِ ثُمَّ أَسْنَدَ خَلْقَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ إِلَى الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ كَانَ مُشْرِكًا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يَدْخُلَانِ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى فَصَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْحَجِّ: ١٧] وَقَالَ أَيْضًا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَةِ:
١٠٥] وَقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: ١] فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَصَلَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى كمال
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute